القاهرة | استعاد المصريون أمس ذكرى وفاة الكاتب الساخر جلال عامر فور اعلان وفاة عمار الشريعي (1948 ـــ 2012). ليس لأن كليهما رحل بسبب متاعب في القلب، بل لأنّ الوفاة في الحالتين حدثت وكان الشارع المصري يشهد اقتتالاً غريباً عن أرض الكنانة. توفي جلال عامر وهو يردّد «المصريون بيموتوا بعض»، ورحل الشريعي أبرز وجوه ميدان التحرير في «ثورة يناير» والميدان مشغول بالدفاع عن وجوده، بعدما دفع محمد مرسي وجماعة الإخوان المسلمين أنصارهم لتكوين ميدان جديد يحاصر كل ميدان يقف فيه المعارضون لسياسات الرئيس الديكتاتورية على حد وصف هؤلاء المحتجين.
بالتالي، لم يكن غريباً أن يطالب محبّو الشريعي بأن تنطلق جنازته من التحرير، غير أنّ تلك التفاصيل لم تعلن بعد بسبب الصدمة التي طالت محبيه رغم علمهم بحالته الصحية المتأخرة. وكشف رفيق دربه الشاعر عبد الرحمن الأبنودي عن اتصال هاتفي جمعه بالشريعي قبل ثلاثة أيام. حينها، قال له صاحب موسيقى مسلسل «رأفت الهجان» إنّ المتحدث باسم الرئاسة ياسر علي زاره للتأكيد على تكفّل الدولة بعلاجه. لكنّ شيئاً من هذا لم يحدث على الأرض، كان الراحل قد دخل في سلسلة من العمليات الجراحية بعد أسابيع من انتهاء الثورة المصرية، وغاب كلياً عن الأضواء طوال الأشهر العشرين الأخيرة. وقبل فترة قصيرة، كشف رضا رجب القائم بأعمال نقيب الموسيقيين أنّ ياسر علي زار الموسيقار في منزله وأحضر له باقة ورد مهداة من الرئيس مرسي وأعلمه أنّ قرار علاجه على نفقة الدولة صدر بالفعل. كأنّ القدر احتفظ بالمتاعب الصحية حتى يقوم الشريعي بدوره في الثورة، وهو الدور الذي بدأ بمداخلة مع برنامج «العاشرة مساء» ناشد فيها الرئيس المخلوع حسني مبارك باكياً، وطالبه بالتنحّي وحقن دماء المصريين. الأمر الذي ساهم في انحياز عدد كبير من محبيه لما يجري في الشارع، قبل أن يستقبل بحفاوة بالغة في الميدان أثرت على حالته الصحية وقتها من فرط ترحيب المتظاهرين بوجوده إلى جوارهم. يومها، قال إنّ «أجمل ساعة ونصف في حياتي هي تلك التي زرت فيها الميدان لأنني أصبحت في حضن أولادي».
وكشف الشريعي خلال الثورة أنّ امتناعه عن تلحين أوبريت الاحتفال بأعياد أكتوبر لمدة 12 سنة، جاء بعدما تيقن من إصرار نظام مبارك على إهدار طموحات المصريين وأحلامهم وكي ينسوا أنّه لحّن الأوبريت الشهير لمبارك «اخترناك»، ويستعيدوا فقط أغنياته الموجهة إلى مصر وخصوصاً «حبيبتي من ضفايرها طل القمر» التي انتهى بها فيلم «كتيبة الاعدام» وهي الأغنية التي انتشرت بكثرة عبر مواقع التواصل الاجتماعي فور الاعلان عن وفاة الشريعي.
رحل الموسيقار عن 64 عاماً، تاركاً للملايين إرثاً موسيقياً فريداً ربما لم يتكرّر لموسيقار آخر في تاريخ الفن المصري. الراحل لم يكن ملحّناً ومؤلفاً للموسيقى التصويرية فحسب، بل كان معلّماً لها من خلال برامجه الاذاعية والتلفزيونية التي كان يحلّل فيها بطريقة فريدة مواطن الجمال في أشهر الالحان. بدأها ببرنامج «غوّاص في بحر النغم» (1988) عبر الاذاعة المصرية وقدمه لسنوات طويلة ثم برنامج «سهرة شريعي» على قناة «دريم»، وبرنامج «مع عمار الشريعي» على «راديو مصر». كان الراحل أوّل من استخدم التكنولوجيا في الموسيقى الشرقية من بين أبناء جيله ليصفه الموسيقار حلمي بكر بأنّه «طه حسين الموسيقى الشرقية». فكلاهما كفيفان، لكنّهما نجحا في ترك آثر بالغ في الأدب والموسيقى على التوالي، وقدم الشريعي موسيقى أكثر من 50 فيلماً و150 مسلسلاً وما يزيد على 20 عملاً إذاعياً و10 مسرحيات غنائية استعراضية.
تعلّم الشريعي الموسيقى في مدرسته الثانوية في سمالوط في محافظة المنيا (صعيد مصر) في إطار برنامج مكثف أعدته وزارة التعليم خصيصاً للطلبة المكفوفين الراغبين فى دراسة الموسيقى. وبمجهوده الذاتي، أتقن العزف على آلة البيانو والأكورديون والعود ثم الأورغ، وحصل على 7 رسائل ماجستير و3 رسائل دكتوراه في الموسيقى. بدأ حياته العملية عام 1970 كعازف لآلة الأكورديون في عدد من الفرق الموسيقية، ثم تحوّل إلى آلة الأورغ، حيث بزغ نجمه كأحد أبرع عازفي جيله. ثم اتجه بعد ذلك إلى التلحين والتأليف، وكون «فرقة الأصدقاء» عام 1980 التي خرج منها المطربون علاء عبد الخالق، ومنى عبد الغني وحنان، كما اكتشف المطربة هدى عمار. كما كوّن ثنائياً ناجحاً مع العديد من المطربين أبرزهم علي الحجار الذي بدأ التعاون معه عام 1979 في موسيقى مسلسل «الأيام»، ونسب الحجار للشريعي الفضل في تطوّر أدائه لاغنيات المسلسلات التلفزيونية. منذ ذلك الحين، قدّم الحجار من ألحان الشريعي أغنيات مسلسلات «أبو العلا البشري»، و«الشهد والدموع»، و«قال البحر»، و«السيرة الهلالية»، و«المصراوية»، و«الرحايا»، و«شيخ العرب همام». كما نعاه الموسيقار هاني مهنى، مؤكداً أنّ الشريعي كان يرى ما لا يراه المبصر في الموسيقى أو في باقي المجالات. كان حكيماً بكل ما تعنيه الكلمة على حد تعبير المقرّبين منه. وللسينما المصرية، قدم الشريعي موسيقى أفلام شهيرة أبرزها على الاطلاق «البريء» و«البداية» وكلاهما لأحمد زكي، و«حبّ في الزنزانة» لعادل إمام، ولحّن في مجال الدراما مسلسلات «أبنائي الاعزاء شكراً»، و «زيزينيا» و «ريا وسكينة»، و «أم كلثوم»، و«حدائق الشيطان». وقدم للمسرح موسيقى عروض «لولي» و«الواد سيد الشغال» و«علشان خاطر عيونك».
ومن المرتقب تشييع جثمان الشريعي ظهر اليوم السبت في أحد المساجد في مسقط رأسه في محافظة المنيا.
وفور سماع النبأ، نعى عدد كبير من الفنانين الراحل ومن بينهم: فيروز كراوية، ومحمود عبد العزيز، وايمان البحر درويش، ومصطفى كامل، وعلى الحجار. أكّد جميع هؤلاء تأثرهم الكبير بوفاة الموسيقار الراحل، خصوصاً أنّهم كانوا حريصين دوماً على زيارته في المستشفى في الفترة الأخيرة.
في آخر لقاء تلفزيوني أجراه مع الإعلامي محمود سعد قبل الانتخابات الرئاسية، قال عمار الشريعي إنّه لم يعد يعرف الخصم من الحليف بعد الثورة، مؤكداً على عدم ثقته بالإخوان المسلمين، داعياً الشباب إلى الاستعداد لثورة ثانية لم يتح له الوقت...
لرؤيتها