تنهض أطروحة محمد جمال باروت «العقد الأخير في تاريخ سوريا ـــ جدلية الجمود الإصلاح» المتوافر في جناح «المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات» ضمن «معرض بيروت للكتاب» على قسمين: دراسة مؤثرات اللبْرَلَة الاقتصادية في سوريا إثر سياسات الانفتاح الجديدة التي بدأت منذ عقدين؛ والتفكيك البنيوي لرقعة المجال الاحتجاجي بعد اندلاع الانتفاضة. يستهل الكاتب السوري قراءاته بتتبع سياسة الانفتاح الاقتصادي في سوريا، محاولاً رصد أهم تداعياتها على الاقتصاد، وقد أدت الى نتيجتين: الأولى ظهور مَن سماهم «المئة الكبار» من طبقة رجال الأعمال الجديدة المتحالفين مع السلطة، والتآكل التدريجي للبورجوازية الوسطى والصغيرة لأصحاب الرساميل. وعلى أهمية القسم الاقتصادي الذي استند إليه الباحث لفهم التطورات في سوريا، تبدو المؤشرات السياسية بسبب راهنيتها أكثر جاذبية، إذ يقدّم رؤية تحليلية لـ«الرقعة المجالية الاحتجاجية».
ثمة معطى أساسي يكشف عنه باروت مفاده أنّه قبل اندلاع الانتفاضة، بدأ النظام السوري يفقد سلطته بسبب الانزياح التدريجي لمركزية السلطة المتأسسة على قيادة الدولة والمجتمع باسم الإيديولوجية الحزبية، نتيجة التحالف بين طبقة رجال الأعمال والدولة، ما أدى الى دخول لاعبين اقتصاديين وسياسيين قلصوا أنموذج القائد الكاريزمي.
يدرس الكاتب تعثر عملية الإصلاح السياسي في سوريا التي بدأت مع الرئيس الراحل حافظ الأسد، وإن كانت بطيئة جداً، وهذا ما يفعله حين يتطرق الى التجربة الجنينية التي قادها الأسد الابن. ما الذي أوصل الإصلاح الى طريق مسدود؟ يخلص باروت الى أنّ التجاذب المحموم بين الإصلاحيين والجموديين هو نتاج وجود سلطتين: فعلية واسمية (أي سياسية/ إصلاحية وأمنية/ تسلطية) وإن استطاع بشار الأسد الإمساك بما يمكن أن نسميه سلطة الظل قبل بداية الانتفاضة.
خلال تتبعه لجدلية الإصلاح في العقد الأخير، خرج الكاتب بخلاصات مهمة. لكنّ دراسته للحدث الميداني/ الاحتجاجي بدت أكثر أهمية، فكيف عالجها؟ يستند باروت الى الاستقراء المتعدد الجوانب للبنى العميقة المؤدية إلى انفجار الاحتجاج وكيفية تفاعل الفاعلين معه، ويقدم مقاربة دقيقة للمجال الجغرافي الاحتجاجي ومكوِّناته، ساعياً الى تبيان الأسباب المنتجة لانبعاث الانتفاضة في المناطق الطرفية، وضمورها في المراكز أي المدن الكبرى مثل حلب ودمشق.
على إيقاع ثنائية الأطراف والمركز، يتحقق باروت من فرضيته الأم: الخيارات الاقتصادية الليبرالية الجديدة همشت المناطق والفئات الاجتماعية لمصلحة رجال أعمال ومنتفعين جدد، وخصوصاً أنّ «المئة الكبار» يتمركزون في المدينتين الكبريين حلب ودمشق. ويرى الكاتب أنّ المناطق الطرفية التي شهدت احتجاجات شعبية حاولت مراراً الدفع باتجاه تثوير المراكز التي حظيت بالجذب التنموي والاستثماري على حساب الرقع الجغرافية الأخرى. انطلاقاً من إشكالياته الأساسية، يريد الكاتب التأكيد هنا أنّ أساس الحراك الاحتجاجي منطلقه اقتصادي/ تنموي من دون أن ينفي المولِّدات السياسية التي كانت أحد أعمدته. يعالج باروت أيام «الجُمع» الاحتجاجية ويحلل البنى الاجتماعية للشرائح التي قادت الاحتجاجات التي دخلت عليها عوامل شديدة التعقيد من الناحية السوسيولوجية كدخول العامل العشائري على مسرح الحراك الميداني.
الى جانب تحليل الانتشار المجالي لبنية الانتفاضة السورية، يسلط الباحث الضوء على المعطيات المكبوتة/ النائمة في مسيرة الاحتجاج، فحماة مثلاً شهدت في الثمانينيات صراعاً دموياً بين الإسلاميين والنظام وبقيت الذاكرة الجمعية حاضنة لهذا الحدث. وبصرف النظر عن السجالات الدائرة بشأن مجريات عام 1982، كانت المدينة من أولى المدن الثائرة لأسباب مختلفة الأهم فيها قَوْمة الذاكرة المجروحة مقابل القَوْمة العشائرية التي يتحدث عنها الكاتب.
يفصل الكاتب الحديث عن الباعث العشوائي للحراك الاحتجاجي في سوريا من دون أن ينسى دراسة المفجرات البنيوية السياسية والاقتصادية، كما يدرس اللاعبين الاجتماعيين _ السياسيين المؤثرين في الأحداث بينهم: السلطة الفعلية والسلطة الرسمية، المعارضة التقليدية المنظمة، اللاعب العشائري والقيادات التقليدية، «الفيسبوكيون» والتنسيقيات الافتراضية، الفئات الوسطى والبورجوازية الصغيرة، والمعارضة الخارجية.
كرس الكاتب جهده المعرفي لتقديم قراءة تحليلية مركبة للتحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي شهدتها سوريا في العقد الأخير وكانت لها آثار سلبية في الدولة والاقتصاد والمجتمع، ومهدت الأرض لتفجير حركة الاحتجاج. وقد نجح في ذلك بفضل القراءة الحيادية والموضوعية للحدث السوري، وموضعة الحراك الاحتجاجي في قراءات متعددة الجوانب رغم سيطرة البعد الاقتصادي، ومعالجة بنية الانتفاضة من الناحيتين المجالية/ الجغرافية والبواعث الداخلية؛ والكشف الدقيق عن معطيات الأحداث، والدراسة المعمقة للفضاء الافتراضي الذي أنتجته وسائل التواصل الاجتماعي. منذ اندلاع الحركة الاحتجاجية في سوريا، صدرت مؤلفات كثيرة، لكن «العقد الأخير في تاريخ سوريا» يبقى الأهم. بمنهجه الحيادي والعلمي والتفكيكي والاستقرائي، يفرض الكتاب نفسه علينا وعلى كل من اهتم بالشأن السوري، ولمن يريد فهم ما جرى ويجري اليوم.