في عالم الموسيقى الكلاسيكية، تضاهي شخصية العازف أو المؤدي شخصية المؤلف. وفي بعض الحالات تتخطاها. هذه السنة، يستعيد العالم ذكرى علَمَيْن في هذا المجال، عازف البيانو الفرنسي السويسري ألفريد كورتو الذي رحل قبل خمسين عاماً، وقائد الأوركسترا جورج شولتي، الذي ولد قبل قرن (راجع المقالة أدناه). ألفريد كورتو اسمٌ يستحيل ألا يتوقف عنده كل مَن ينسج علاقة ــ من أي نوع كانت ــ بالموسيقى الكلاسيكية الغربية. هو العازف المُعلِّم، وأحد عمداء المهنة ممَّن تركوا تسجيلات توثِّق رؤيتهم للأداء. إنه الشخصية التي طبعت أجيالاً من العازفين الذين تتلمذوا على يده وبدورهم، نقلوا أسراره إلى تلامذتهم في مدرسة البيانو بشقّها الفرنسي. إنّها المدرسة التي لا تزال حتى اليوم، تحوي تأثيرات هذا الرجل. هو أيضاً الشخصية العامة التي خلقت جدلاً حولها بسبب بعض المواقف السياسية المخزية التي تمثّلت في تعاونه الوثيق مع سلطة «فيشي» والاحتلال النازي.
ولد كورتو في سويسرا، موطن والدته (1877 ـــ 1962) لعائلة متواضعة. رسم الوالدان لابنهما الأصغر مستقبلاً موسيقياً، فعلّما شقيقتيْه فقط بهدف تلقين كورتو دروسه الموسيقية الأولى. عام 1886، هاجرت العائلة إلى فرنسا، فدخل كورتو كونسرفاتوار باريس، الصرح المرموق الذي كان ولا يزال قِبلة العازفين، تماماً كما كانت العاصمة النمساوية قِبلة المؤلفين في القرن الثامن عشر. هناك درس مع إميل دوكومب، عازف البيانو الذي تلقى دروساً على يد شوبان. بعدها، بدأ الشاب الموهوب مسيرته كعازف محترف، فقدَّم في فرنسا وأوروبا عشرات الأمسيات التي كانت تتعاظم معها شهرته حتى بات من أبرز الشخصيات الموسيقية التي عرفتها فترة ما قبل الحرب العالمية الأولى. عام 1902، سافر إلى ألمانيا لحضور عرض في مسرح «بايرويْت» الشهير، فوقع في غرام موسيقى فاغنر، وقرَّر على أثر ذلك خوض تجربة قيادة الأوركسترا لتقديم أعمال الأخير (بما أنّ الموسيقي الألماني لم يترك إلّا بضعة أعمال للبيانو، لا قيمة فنية تُذكر لها). هكذا قاد إحدى أوبريات فاغنر لدى عودته إلى باريس، في أول ظهور علني له كقائد أوركسترا. مثلت سنة 1906 مفصلاً في حياة كورتو، حيث أسّس مع بابلو كازالس (تشيلو) وجاك تيبو (كمان) أهم ثلاثي في القرن العشرين. هذا الثلاثي الأسطوري ترك تسجيلات مرجعية لأبرز الأعمال (وخصوصاً شوبرت وبيتهوفن)، وقدّم عشرات الحفلات إلى أن تشتَّت عام 1935 لأسباب سياسية. فكورتو الذي أحبَّ فاغنر يوماً، لم يتفق مع كازالس الكاتالوني المناضل الشرس ضد صعود الفاشية الإسبانية. هذا التوجه السياسي لكورتو توضّحت معالمه بعد سنوات. فقد تعاون الموسيقي الكبير مع حكومة «فيشي»، بل أحيا أمسيات باريسية من تنظيم المحتل الألماني وقبِلَ دعواته «الموسيقية» إلى برلين. بعد التحرير، أوقِف ألفريد كورتو، لكنّ السلطات كانت متساهلة معه، إذ منعته من إحياء الأمسيات لمدة سنة فقط، باعتبار أنّ علاقته بالاحتلال لم تتخطَّ حدود التعاون الثقافي. غير أن الجمهور لم يسامحه. لاحقته اللعنة حتى بعد رحيله عام 1962 تحت شعار «ماضي الاحتلال لا يمضي»، لكن الموسيقي «الملعون» لم يستسلم. ظل يحيي الحفلات (آخرها أمسيةٌ شهدت مصالحته مع كازالس عام 1958)، وأبرزها، في تلك المرحلة، رحلته الشهيرة إلى اليابان، حيث قام بجولة جرت على أثرها تسمية إحدى جزر الأرخبيل باسمه: كورتوشيما، لكن حضوره القوي اليوم، من خلال تسجيلاته وتعاليمه يؤكِّد أنّ ماضي الكبار، كماضي الاحتلال، لا يمضي.



40 أسطوانة في الأسواق

أحيا ألفريد كورتو حوالى ستة آلاف أمسية خلال حياته المديدة. وتتلمذ على يده عشرات العازفين ممَّن صنعوا مجد الأداء الكلاسيكي على البيانو مثل العملاقيْن سانسون فرانسوا وفلادو برلموتر (اللذين ذكرناهما، إلى جانبه، في ملفنا الخاص عن شوبان منذ سنتيْن). هو صاحب أول تسجيل لسوناتة فرانز لِيسْت الوحيدة، وأهم تسجيلاته هي لأعمال فريدريك شوبان (بالأخص التمارين) وروبرت شومان وكلود دوبوسي وسيزار فرانك وغيرهم... كذلك، ترك كورتو كتابات قيّمة عن الأداء وعن شوبان. وفي مناسبة الذكرى الخمسين لرحيله، أصدرت EMI أخيراً علبةٌ مِن 40 أسطوانة تحوي إرثه المسجَّل الكامل!