«كانت الاستخبارات الإسرائيلية قد اغتالت غسان كنفاني بسيارة مفخخة. وقالت أم مارون إنّهم «لملموا أشلاءه عن الشجر، ووجدوا ساعده على ظهر بناية وعليه ساعة يد لم تزل تدق» (الضوء الأزرق _ حسين البرغوثي). لم تزل غزة تساوي بين جانٍ وضحية باسم السياسة، تحرّر فينا بمقاومتها الهزائم التي أورثها العقل العربي لإدراكنا الجمعي في ما يتعلق بفلسطين والمقاومة تحت مسميات مختلفة ودواعٍ خطابية مختلفة، ذلك التحرر الذي لا يعيد فقط للمقاومة جماليتها، لكن أيضاً ما يفتقده عقل المهزوم من واقعية، قد تطغى عليها نشوة المقاومة وتتعامى عنها انهزامية الواقع العربي.
غزة تبسط تضاريسها على مساحة ضيقة منبسطة لا تعد أكثر من 1.3 في المئة من إجمالي مساحة فلسطين المحتلة ويبلغ عدد سكان القطاع 1.5 مليون نسمة، لا تخدم فيها الجغرافيا استراتيجيات المقاومة بقدر ما قد تفعل في حالة الجولان المحتل أو الجنوب اللبناني المقاوم. تلك البساطة في الجغرافيا تجعل أيضاً القطاع من أكثر مناطق العالم اكتظاظاً. هذا الاكتظاظ التي تعريه مواثيق الإبصار للأقمار الصناعية الأميركية وتقانة العولمة المستحوذة، وانفتاح السماء لمراقبة الطائرات لأرضها، كل هذا يكشف عن كاحل غزة ثوبه، ويجعل من أي ضربة عسكرية إسرائيلية مكثفة ومضاعفة، وبالذات في ظل تكاثف ثقافة «العمالة للإسرائيلي»، تلك الثقافة التي انفصلت عن قيمة الوطن وأصبحت مجرد «وجهة نظر».
كل مشاهد الاختراق الإسرائيلي للمكان الفلسطيني لا تعني هزيمته وأسرلته واحتلاله. كما يصف بعض سكان غزة مدينتهم المقاومة، هي «مدن غزة تحت مدينة غزة». ولعل هذا ما يثبت عبقرية المقاومة كفكرة تاريخية، تتقدم دوماً على المحتل. ومن أبرز تجلياتها الغزية بطاريات صواريخ المقاومة التي تنفتح لها أرض المكان الغزي، لتقذف صواريخها في عين القبة الحديدية وطيور الآلهة المعدنية، ثم تختفي، مثبتةً أنّ تعريف الاحتلال من دون مقاومة لا يستقيم.
إن المكان الفلسطيني لم يهزم بعد. تل أبيب التي تضيئها صواريخ المقاومة، وتصرخ فيها صفارات الإنذار، يهرب فيها الإسرائيلي إلى الملاجئ «تحت الأرض»، ويهرع الفلسطيني إلى «فوق الأرض» شاهداً، فيعيد للمكان الفلسطيني حسمه مع المحتل. الدروس من المقاومة الأبية لم تنته بعد. ولكل من يقرأ تفاصيل الحرب الإسرائيلية الفاشية على غزة أن يتوقف أمام الآتي:
1. أولى القذائف التي قُصفت بها تل أبيب كانت محلية الصنع، خرج حديدها من رحم غزة بعد 7 سنوات مُنع فيها الحديد من دخول القطاع ضمن منع مواد البناء والتسليح.
2. الكيان الصهيوني _ كتطور للنماذج الكولونيالية _ يحتاج دوماً إلى «نصر» على الأعداء (لاحظ تسمية الجيش الإسرائيلي بـ«جيش الدفاع») فيأخذ شرعية الحماية. لكن هذه المرة يوجد «عدو» ولا يوجد «نصر»، وبالذات بعد حرب غزة 2008 _ 2009، وحرب تموز على لبنان في 2006.
3. تحرير المقاومة من إيديولوجيات الأطر السياسية، فدم الشهيد أحمد الجعبري وغيره من شهداء غزة، وحّد يمين المقاومة ويسارها، وأعاد للعقل العربي أولوية المقاومة على أولوية الإيديولوجيا. وهو ما يمكن وصفه بأنه إعادة للإسلام السياسي في صورة حماس والجهاد (الجمع ليس من باب المرادفة ولا التقابل) إلى قضية «الوطن» وليس «الإمارة الإسلامية» كما يمكن أن تعريه الفوارق بين الحالة السورية والحالة الفلسطينية. والمنطق ذاته يمكن تطبيقه على اليسار العربي من حيث تقديمه للإيديولوجيا على حساب فكرة الوطن.
4. في ظل انفتاح العالم بعضه على بعض في الاتصالات والمعلومات، تعلمت المقاومة الفلسطينية من نماذج عدة الدرس. ولعل أهم تلك النماذج تأثيراً من حيث الجغرافيا ووحدة العدو، كان خطاب المقاومة اللبنانية، فهو خطاب ولو اختلف مخزون الردع/ التدمير (راجع «الأخبار» 17/11/2012) بين الإسرائيلي والمقاومة اللبنانية لصالح الأول، إلا أنّه ينتصر للمخزون القيمي/ المعنوي المستبطن في وعي المقاومة والوطن في الذات العربية بأن قدّم المقاومة في صورة الند، لا كما اعتاد العقل العربي أن يدرك ذاته في مواجهة الاحتلال في صورة «الضحية». وهو إدراك القوي لقوته، نازعاً عن مخزون الردع/ التدمير سطوته التي بررت لها كثيراً ثقافة الانهزام العربي و«الاعتدال» باسم العقل، تلك قوة معنوية ونفسية للمقاومة على خصومها.
كذلك، قدمت المقاومة نفسها في صورة الند قدر الإمكان، فتعاملت مع القوة الإسرائيلية الرادعة بالقدر نفسه من الردع، وهو ما حطّم أحد أهم أساسيات إنتاج الخطاب العربي السياسي المهزوم باسم الواقع الذي يقدم القبول بالاحتلال ومهادنته والانهزام له بديلاً من المقاومة، محوّلاً وجود الاحتلال إلى مهنة ووكالة وتنسيق وغيره. ومن العلامات الفارقة في هذا الشأن، تغلّب المقاومة على انبساط الجغرافيا أمام الآلة الإسرائيلية، والوصول بإرادة المقاومة من حيث إنّها قوة دافعة معنوياً/ قيمياً إلى حدود الفعل الاستراتيجي الرادع/ المدمر في أكثر صوره عبقرية إذا ما قورن بالممكن والمتاح، كما حدث من قصف بوارج إسرائيلية ومدرعات وإسقاط طائرات من دون أن تتمكن إسرائيل باستدعاءاتها المتكررة لجيش الاحتياط من معادلة الكفة معنوياً ولا حتى بالتهديد بالاجتياح البري.
ستظل غزة امتحان جدارة للعقل العربي الثائر والمقاوم معاً. كيف أنّ الوطن لا يصبح غاية ووسيلة معاً، ستظل غزة امتحاناً للشعوب العربية وحكوماتها ومن يلحق بها، فهي لن تلحق بأحد، ستظل فلسطين ما بقيت فلسطين كلّها «نداً» للاحتلال لا ضحية له. ستبقى ساعة كنفاني تدق جدران خزاننا، مهما توقفنا للبكاء عليه.
* كاتب وطبيب فلسطيني