لطالما كنت أقول لنفسي إنّ غزة ولدت للحروب، وإنّ فترات الهدوء ليست إلا أوقاتاً قليلة وقصيرة كي تجهز الحروب نفسها وتعاود الهبوب على المدينة. وحين كانت تأخذني الحياة وتسرقني تفاصيلها من هذه الفكرة وتفرد غزة جناحيها محلقة في هدوء ودعة، كانت الحروب تأتي مرة أخرى ملوّحة من بعيد، تعيد تذكيري بالفكرة التي لم تغب بعد خلف شاشة بيضاء تلفّ الجرح. تسكنني فكرة أنّ الناس في غزة يولدون ويموتون في الحروب، حياتهم كلها حروب كأنّهم لا يعرفون أكثر من الحرب، لم يمنحوا هبة العيش بسلام. لذا، فإن تفاصيلهم تكون مجبولة بوجع دائم، ثم يتأقلمون وتصبح الحرب نكهة الحياة.
كان رحيل أخي نعيم في الانتفاضة الثانية قبل عشر سنين كرةً تدحرجت في عقلي تطرق خزاناته، فهو ربما لم تمنحه الحياة فرصة أن يتذوقها. فقد ولد في الحرب ومات في الحرب أيضاً. أصابته الحروب في جسده أكثر من أربع مرات في الانتفاضة الأولى، ثم أمضى قرابة ثلث عمره في السجن وبعدها خرج ليمضي زهرة تغتالها الحرب في معمعان الانتفاضة الثانية. ليس في الموت من جمال، وليس في تذكّر من نحب إلا الألم. يبدأ السطر الأول من روايتي التي أكتبها «ولد نعيم في الحرب ومات في الحرب أيضاً». كان إحساسي خلال الأيام الثمانية التي دلق فيها «عمود السحاب» النار على غزة، أنّني قد أموت فجأة من دون أن تحس بالكثير من الفارق بين عالم الموت وعالم الحياة، كأنّك تنتقل من حلم إلى حلم، فأنت لا تملك الكثير من البراهين لتدلل على أنّك حقاً في عالم الأحياء. السيارة المتفحمة قرب السوبر ماركت، العمارة الخاوية مثل كومة من أخيلة مكسرة بكلمات إليوت والحفرة العميقة في وسط البيارة المجاورة كأنّها قبر جماعي ينتظر ساكنيه... كلّها تقول لك إنّ الأمر محض صدفة.



الحروب تأتي مصادفة حتى حين تكون مستعداً لها، لا تستأذن ولا تطرق الباب. هكذا كانت الطائرات تغير فجأة على غزة في ذلك الصباح من شهر كانون الثاني (يناير) عام 2008، فاهتزت المدينة كما يضعها عفريت على كفّ يده ويحاول قلبها. ثم حين أغارت مرة أخرى قبل أسبوعين على سيارة مدنية في شارع فرعي خلف السرايا، لتعرف وأنت في التاكسي أنّها قتلت أحمد الجعبري. في الحالتين، كنت تحاول أن تعيش حياتك كما هي، لم تكن تستعد لحرب ولا لموت ولا لبحث في أسئلة كبرى. كانت الحياة تحاول أن تدفعك في أتونها، تنشغل بها، لكن الطائرة في السماء كانت تخطط شيئاً آخر. ما أقسى أن تسمع حكايات الناس عن الأشياء البسيطة التي كان يقوم بها الراحلون قبل أيام من موتهم المفاجئ. تفاصيل صغيرة تصبح فجأة سرة الحياة ومركز الكون. ثمة حنين لا تشبعه سحب الدخان الكثيفة المتصاعدة من فم الرجل الخمسيني، وهو ينفث سيجارته ثم تتسلل دمعة على خده مثل صاعقة قنبلة تتدحرج في قاع الطريق. ولأنّ الحروب تأتي فجأة، فإننا سرعان ما نقع في تفاصيلها أيضاً. هي لا تترك لك متسعاً من الوقت كي تتمرّد أو تعيد ترتيب الواقع (إلا في مخيلتك). لذا تجد نفسك فجأة فيها. أصدقائي في أوروبا خلال دراستي هناك، كان يسألون السؤال البديهي «كيف الحياة في غزة؟». وكانت إجابتي تأتي مسرعة إلى آذانهم «كأن تكون جزءاً من نشرة الأخبار». والحياة في غزة دائماً كأنك جزء من نشرة الأخبار، وقد تصبح فجأة أنت الخبر الرئيسي، لكنك وقتها قد لا تجد الوقت لكي تستمع إلى نشرة الأخبار. غزة مخبز للأخبار، ينتج القصص الشهية المرغوبة وفطائر محلاة للتحليل والبرامج والأفلام الوثائقية. ما أقسى أن تجد من تحب صوراً معلقة على الجدار في شوارع المدينة. صديق أو قريب يصبح فجأة صورة منتشرة على الجدران تحتها أو فوقها، بضع كلمات عن البطولة، لكنها كلمات تقول شيئاً واحداً مؤكداً أنه لن يعود. تم تتخيل هذا الشريط الطويل في ذاكرتك. ترى من رحلوا ومن ظلوا منهم خلف قضبان السجن منذ أكثر من عشرين عاماً وتدرك أنّك قد تصبح جزءاً من شريط الآخرين بعد دقيقة، ومادة لحوارهم المخمور بالحنين. كانت الاستعارة التوراتية لاسم العدوان على غزة «عمود السحاب»، ترسم مقاربة مؤلمة. أحدهم يريد أن يصب عموداً من نار على سكان غزة البسطاء في انتقام من تاريخ تيهه هو في صحراء سيناء. إعادة تأويل التاريخ هواية المستعمر منذ أن أخذ يبحث تحت أنقاض بيت جدي في يافا، باحثاً عن دلالة واهية فيها شبهة منه ولم يجد. ثمة هواية مربوطة بإعادة إنتاج حكاية أخرى حتى لو اقتضى الأمر ليّ ذراع التاريخ وإعادة موضعة الجغرافيا كي تصير الحكاية ممكنة مثل كاتب فاشل تدرك بأنّ وصفه ليس دقيقاً، وأنّ ثمة شخصيات لا علاقة لها بسياقها الزمني أو المكاني.
كانت الطائرات ـــ حتى في الأوقات التي يكون فيها المايسترو يجهز لضحية جديدة ـــ لا تتوقف عن الطن والتحليق مثل بعوضة ضخمة فوق وجهك. في الحرب السابقة 2008، وبعدما ضربت البوارج البحرية حيّ النصر وكانت نيرانها تشتعل في وجه صالون شقتنا في الطبقة السابعة، سألني ابني مصطفى، وكان وقتها لم يبلغ السنوات الست: «ليش اليهود بيضربونا؟». لم أجب لأنّي كأب كنت أحاول أن أصوغ الإجابة التي تساعده ولا تثقل عليه. لكنّه بفطرة الطفل، أجاب بنفسه مستفهماً «عشان بخافوا منا يا بابا!!!».غزة امرأة بعمر التاريخ لم تتمتع بشبابها. المدينة التي يزيد عمرها على عشرة آلاف سنة، مرت عليها كل جيوش الغزاة، ودكت خيول الإمبراطوريات تخومها وقامت فيها حضارات وممالك، لكنّها لم تكن يوماً مركزاً لأيّ منهم، كانت ساحة اشتباك وحروب. ربما حكمت عليها الجغرافيا بذلك، فهي بداية عالم ونهاية آخر. خلقت غزة كهلة، لم تعش شباباً تتذكره بنوستالجيا مشفوعة بالتوق وبالرغبة. ذكرياتها واحدة، وخوفها دائم، ووجعها يطن في الأذن، كالعرافة اليونانية التي طلبت الخلود ولم تطلب الجمال، بيد أنّ غزة وهبت الحروب ووهبت أيضاً نعمة النجاة منها أو كأنّها تعلّمت أن تعيشها وتتهيأ لها. اشتقت إلى قهوة بدون طعم الحرب، إلى فكرة عابرة، إلى حلم خاطف، إلى لحظة مرغوبة وأمنية مشتهاة. اشتقت إلى الإقلاع عن التفكير في النجاة، في وقع الخبر السيئ حين تتلقاه فجأة، في الألم المحتمل. يرهقك أنّك تسكن في كل شيء وتسكنك الأشياء كلّها، تثقل عليك، تجعل منك حصاة تدوسها عربات الخيل في طريقها إلى فتوحات جديدة. احتسِ قهوتك ونم لأنّ للحرب نهاية لن تستأذنك أيضاً، فقط طعم القهوة سيخبرك وقتها.
* كاتب فلسطيني مقيم في غزة