يضع بهرام حاجو (1952) شخوصه في مساحات رحبة، لكنها رحابة تتعارض بقوة مع الضيق الذي ينبعث من أجسادهم وملامحهم. هناك رحابة مماثلة في الأجساد المنجزة على خلفيات واسعة أيضاً. الأجساد مرسومة بأقل ما يمكن من الخطوط. اللون الأسود (ومشتقاته) حاضرٌ بكثافة مع الأبيض الموسَّخ. الخلفية جزء من مناخ المادة المرسومة، ومنفَّذة بألوان وخدوش مينيمالية تؤدي دوراً في إراحة عين المتفرج، وتُضاعف فكرة الرحابة في اللوحة. في المقابل، تتلقى الشخوص لطخاتٍ بالأحمر والبرتقالي والبنفسجي.
أحياناً تتسع اللطخات وتصبح بمثابة غلالة رقيقة أو مشحات لونية تغطي جانباً من عري الجسم، لكنها تتمتع بحرية أن تتجاوز حدود الجسد الواحد إلى جسد آخر. تقنية لونية مماثلة تصبح ممكنة وسهلة مع ميل الرسام إلى وضع رجل وامرأة في أغلب لوحات معرضه الحالي الذي تحتضنه «غاليري عايدة شرفان».
إلى جانب الثنائيات، هناك كائنات وحيدة في لوحات أخرى. في الحالتين، هناك سوء فهم لهذه الكائنات مع وجودها في العالم. وجوهها الشبيهة بوجه الرسام نفسه تجعل سوء الفهم مسألة شخصية أيضاً. الرسام السوري الكردي المقيم في ألمانيا لأكثر من ثلاثة عقود، لا يزال مواظباً على ترجمة أسئلته الوجودية الخاصة. على غرار أبناء جيله، ومن تلاهم من الرسامين الأكراد، رسم حاجو طبيعة الشمال السوري وإنسانها البسيط والمطحون والمهمل. موضوعات ظلت تؤمّن الضوء والظل والوهج اللوني الثريّ لأعماله. الهجرة إلى ألمانيا، والدراسة فيها، خصّبا تلك العصامية التشكيلية التي يهتدي إليها الرسامون الأكراد بسرعة في بداياتهم. مزج حاجو ذاكرة الأمكنة الأولى ومخزونها البصري الخصب مع مؤثرات قوية مجلوبة من انطباعية فرنسية، مخلوطة بدورها مع تعبيريات ألمانية. مؤثرات رافقت تطور تجربته وتدخّلت في صياغة تقنياته الأسلوبية، لكنه أخذ منها ما يعزز هويته ومدوّنته اللونية الخاصة. ربّى ممارساته الفنية على هامش حركة الفن الألمانية والأوروبية. تسرّبت أمزجة حديثة وما بعد حديثة إلى فكرته عن الرسم، لكنه ظل محافظاً على شرقيّته. هكذا، بات في استطاعتنا أن نجد شيئاً من وحشية ماتيس في خلطته اللونية المشغولة بنقل مشهديات طبيعية وكتل بشرية من مسقط رأسه في مدينة القامشلي وجوارها، وشيئاً من غوغان في أجساد كائناته ذات القياسات الكبيرة، إضافةً إلى مذاقاتٍ تعبيرية معاصرة في أشكال هذه الكائنات، وفي الشحنة الوجدانية والذهنية التي تتجمع في ملامحها وحركتها المنكسرة. المعاصرة حاضرة ومكثفة أكثر في الآلام المنبعثة من الوضعيات التي تأخذها هذه الأجساد في اللوحة. إنها أجساد مرضوضة ومعنَّفة. كأنها عاشت للتوّ ما يُشعرها بنوع غامض من الإثم. الحدث انتهى، وما نراه هو فلوله وبقاياه التي تزيد من عزلة أصحابها وانطوائهم على جروحهم النفسية الغائرة. كأنهم «مُذَلّون مُهَانون»، إذا استخدمنا عنوان رواية دوستويفسكي الشهيرة لوصفهم. اللطخات على أجسادهم تتحول إلى نوع من العقاب أو الوشم، بينما الشعور بالإثم يُجبر بعضهم على إدارة ظهره للمشاهد. حتى في اللوحات التي يحتلها رجل وامرأة، نجد نوعاً من التباعد بدلاً من حميمية المثنّى الذي يعيش طرفاه سوء فهم بينهما، وسوء فهم آخر مع العالم الخارجي. في المقابل، ينجح بهرام حاجو في تحويل ذلك إلى فنٍّ شخصي مدهش. يضبط منسوب العزلة والألم في شخصياته، ويجعلها محببة ومغرية للاقتناء أيضاً. في الفن، الألم يمكن أن يكون «جميلاً» أيضاً.

حتى نهاية تشرين الثاني (نوفمبر) ـــ «غاليري عايدة شرفان (وسط بيروت). للاستعلام: 01/983111



ضجر المجتمعات الحديثة

للمرة الثانية، يعرض بهرام حاجو أعماله في بيروت.
لم تتغير مناخاته تقريباً. ما زالت واقعيته التعبيرية تعتمد على شخوص يتخبطون في إشكاليات وجودية معقدة. هناك عدوى معاصرة تنقل ضجر المجتمعات الحديثة إلى لوحاته. إقامته الطويلة في ألمانيا تجعل هذه المعادلة ممكنة دوماً، إذ تكتسب العزلة الشخصية عزلاتٍ أخرى لها علاقة بالعيش في الغرب. مع ذلك، حمى حاجو أسلوبيته وتقنياته الأصلية. عُرضت أعماله في غاليريات ألمانية وأوروبية مهمة، واقتُني عدد منها في بعض المتاحف، لكنه واظب على عرض أعماله في بلده، حيث يمكن بسهولة ربط جروح شخوصه وآلامهم بالقتل والدمار الذي يحدث اليوم في سوريا.