على غرار الشعراء الذين يكتبون بمعجم ذي مفردات قليلة، يكتفي محمود زيباوي (1962) بمدونة لونية متقشفة، وموضوعات ضئيلة. الرسام الذي يقف على حدة في خريطة المحترف اللبناني، لا يزال يرسم وجوهاً وأوانيَ وطيوراً. كأن النقلات أو التطورات الأسلوبية التي تحدث بقفزات واسعة في تجارب الآخرين، يحرص هو أن تحدث بمزاجٍ مينيمالي خافت داخل لوحاته التي تتكرر فيها المفردات ذاتها في المساحات الصغيرة ذاتها. تتغير التقنيات قليلاً. تتصفّى اللوحة أكثر. تزداد سكينةً وخشوعاً. تتعدد طرائق تأليفها، ولكن كل ذلك محكوم بانضباط أسلوبي صارم. هكذا، يصبح معرضه الجديد «تجليات» في قبو «كنيسة القديس يوسف» أشبه بالحفر في الموضع نفسه، بينما القياسات الصغيرة التي يفضّلها في إنجاز أعماله، تصير ترجمة لائقة بالمناخات الصامتة لموضوعاته.
بالنسبة إليه، اللوحة هي نافذة صغيرة وليست باباً واسعاً، حيث اللوحة ملتفتة إلى عالمها، وتتأمل نفسها أكثر من انشغالها بأن تُرى من الخارج. اللوحات الخمسون في المعرض تدعونا إلى تأملٍ مماثل للتأمل الذي ينبعث منها. أما المساحات الضيقة والتكوينات المتكررة، فتدعونا إلى تثمين الممارسات التي استُخدمت فيها، قبل أن تذوب في النسخة النهائية. البساطة البادية على السطح لا تخفي التأليف المعقد للوحات. إنها «تجليات»، بحسب عنوان المعرض، والمطلوب من المفردة أن تجلب ذاكرتها الروحانية والصوفية، وتُحضر معها ثقافة الفنان المتحصلة من دراسته الأكاديمية المعمقة لتاريخ الفن والأديان وفنون الأيقونة الشرقية. هكذا، تتضاعف ثقافة اللوحة التي نراها، ويصبح موضوعها ذريعةً أو حافزاً أولياً لممارسة طقوسٍ لونية وتكوينية خصبة. الرسم يتجاوز الموضوع إلى عناية فائقة بالقماش واللون والضوء. ولأنّ هذه العناية مبذولة في تكوينات صغيرة ومساحات ضيقة، فهي مُطالبة بأن تُدهش المتلقي من دون أن تستعين بأسلحة إضافية لإدهاشه. كل ما تفعله أنّها تحاول نقل عدواها إليه. أن ينضوي هو الآخر في «لعبة» السكينة والصمت والخشوع. كأن اللوحة برزخٌ معاصر يعبر منه الرسام إلى المتلقي أو بالعكس. البرزخ مفردة أخرى تكشف الثراء الخفي لما نراه، وتمنح الرسم صفة العبور الميتافيزيقي بين عوالم متعددة، وترفع منسوب الإحساس بقيمة الزمن الناتجة عن التأمل المستمر في الأشياء نفسها. هناك نوع من «الفيتشية» الفنية في علاقة زيباوي مع وجوهه المستلة من الفنون القديمة لبلاد الشام، ومن الأيقونات الشرقية، ووجوه الفيّوم الشهيرة، ولكنه لا يأخذ الموضوع كما هو. الوجه الأيقوني في معرضه الحالي تفصيلٌ مُجتزأ من أيقونة كبيرة. إنه موجود هنا لكي يحصل على الانطباع الخاص به، وهو انطباع غالباً ما يضيع في الأيقونة الشاملة التي اجتُزئ منها. التعرّجات الدقيقة والنقاط شبه الممحوّة التي تلوح مثل منمنمات متناهية في الصغر هي ترجماتٌ للون الواحد المستخدم في تظهيرها. اللون الترابي الكامد والمطفأ الذي لطالما حضر في فن الأيقونات، يتحول لدى زيباوي إلى ممارسة تجريدية أيضاً. هكذا، يصبح الوجه «رغبةً في الوصول إلى وجه الوجه» بحسب تعبيره، ويحضر المزاج التجريدي في الوجوه كما في الأواني والطيور. التجريد موجود في نواة هذا المزاج الذي يخلط بين الفن الإسلامي الذي هو تجريد صافٍ، وبين القداسة المنبعثة من الملامح الحزينة والعيون الحُلُمية المنكفئة إلى الداخل. أما في الأواني، فتظهر القيم التجريدية في تعتيق الألوان، بحيث تبدو الأواني نفسها كأنها لقى وفخاريات ناتجة عن عمليات تنقيب أثرية. هل قلنا تنقيب أثري؟ ها هي الانطباعات تنضفر وحدها، وتجمع بين البعد الصوفي والمسيحي والتاريخي، ويمكن حينها أن نفكر في أصلٍ طوفاني للحمامات التي يرسمها. الحمامات أيضاً ليست مرسومة في حالة تحليق. بوقوفها على الأرض، وأجنحة مضمومة، تبدو منكفئة وصامتة، مثل الألوان الصامتة والموحّدة في أعمال الوجوه والأواني. المعجم اللوني المتقشف والمتقارب يجعل اللوحات كلها في حالة نشوة وتطريب، إلا أنه تطريبٌ صامت ومنكفئ أيضاً. كأن الرسام يردد جملة لونية واحدة، كما يفعل العازف حين يكرر الجملة اللحنية نفسها. هكذا، يعيدنا هذا التوصيف إلى عنوان المعرض مجدداً. ما نراه هو تجليات تشكيلية يحتفي فيها زيباوي بصمت الوجوه والطبيعة والجمادات. صمتٌ يذكّرنا أيضاً بـ«الحياة الصامتة» لدى فنانين مثل: جان شاردان وجورجيو موراندي وسيزان. لا يُخفي الفنان هذه المؤثرات، بل يجاهر بها كجزء من هوية خاصة ومزاج شخصي. كأن الانتماء إلى هذا العالم المتقشف والصامت يؤمّن حمايةً مستمرة لهذا المزاج أمام الضغط الذي تفرضه الفنون المعاصرة على اللوحة التقليدية التي يواظب زيباوي على الإقامة فيها.



«تجليات»: حتى 19 تشرين الثاني (نوفمبر) ــ قبو «كنيسة القديس يوسف» (الأشرفية ـ بيروت). للاستعلام: 421814 /01