لا شك في أنّ المخرج الكبير يسري نصر الله له رؤيته الخاصة وتأويله الفريد دوماً للأمور الجدلية والإشكالية في المجتمع المصري المعقد... هذا ما فعله في طرحه الجديد لتحليل أسس ومقومات الثورة والثورة المضادة وتبعات الثورة المصرية العظيمة التي قامت في 25 كانون الثاني (يناير) 2011.
لكن في شريطه الأخير «بعد الموقعة»، يتعرّض لتفصيلة معينة في سياق الثورة ألا وهي حادثة هجوم البلطجية المأجورين على ميدان التحرير في محاولة يائسة وأخيرة من مشغليهم أو المستفيدين منهم من رجال الأعمال أو رجال الحزب الوطني لإعادة الأمور إلى نصابها، أي إلى ما قبل الثورة... وهو ما عُرف باسم «موقعة الجمل». من هذه الزاوية الجدلية، يبدأ يسري بتفكيك عناصر الثورة المصرية ضمن سلسلة من الرموز والدلالات المقصودة التي لا تفوت مخرجاً من وزن يسري نصر الله، صاحب الأفلام الأكثر رمزية ودلالية في السينما المصرية في العقد الأخير على الأقل ومن هذه الدلالات والرموز نميّز ما يلي: العنصر الرئيسي الممثل للثورة المصرية الشبابية التقدمية هي فتاة (منة شلبي) شاركت في الثورة. وفي زمن الفيلم الفني، تشارك في العمل التطوعي الذي نشأ بعد الثورة. خلال إحدى الجولات في نزلة السمان (الحي الرئيسي الذي خرج منه بلطجية النظام في «موقعة الجمل»)، تقابل الخيّال الشاب الوسيم الأسمر (باسم سمرة) الذي يعاقبه الجميع لأنه ظهر في فيديو من فيديوهات الثورة على اليوتيوب وهو يضرب الثوّار بعد هجومه عليهم ممتطياً حصانه. وتبدأ على الفور علامات الاهتمام والإعجاب به حتى تتوّج باصطحابه لها في اليوم نفسها ليقبّلها في ظلام الحواري. من هنا، يظن القارئ السريع للفيلم بأن يسري يقدّم الثورة كما يشتهي أعداؤها أن يصفوها بأنّها ثورة شباب وبنات «منحلّين» يدخنون الحشيش ويشربون الكحول في ميدان التحرير ويمارسون الجنس فيه أيضاً، ولا مانع لديهم من ممارسة التقبيل مع أي أحد حتى لو كان من الفلول.
يتوَّج ذلك بمشاهد لاضطهاد أحد متطوعي الثورة للخيّال نفسه وطرده بناء على ماضيه الإجرامي بحق الثورة.
وهنا نكاد نقول بأنّ المخرج انقلب على الثورة فعلاً. لكن بتراكم الرموز، نكتشف أنّ ما أراده المخرج الذي أسهم أيضاً في كتابة السيناريو هو أن يقدم رؤيته الخاصة لمستقبل البلاد بعد الثورة وأن يقول بصوت عالٍ: كلّنا ضحايا النظام الفاسد، حتى البلطجية والسجانون ومن عادوا الثورة. والدليل أنّ البلطجي أظهر ندماً وقرفاً متتالياً لما فعله في «موقعة الجمل» ليس بناء على كونه أبعد عن الكعكة، بل لأنّه أدرك أنّ النظام السابق هو الذي سرق حلمه وسحره كخيّال بكل ما تعنيه الكلمة من سحر الفرسان والبطولة والقوة. النظام السابق هو الذي اضطهد الشعب بكل فئاته، وبنى السور الذي عزلهم عن الهرم/ الرمز الكبير لمصر، وهو مَن عزلهم بالتالي عن لقمة عيشهم واستمراريتهم في مهنة السياحة. هذا ما توضّح بشكل جلي في المشهد الرائع بين منة شلبي وباسم سمرة قرب السور والهرم في الخلفية. من هنا، فإنّ المخرج أراد أن يقول بأنّ البلد لن تقوم لها قائمة، إلا إذا التقى طرفا النزاع أثناء الثورة ممن أطلقت عليهم تسمية «الفلول والثوار». وهذا ما حدث بالفعل في الفيلم حين ساعدت البطلة الخيّال وأخرجته من مشاكله الاجتماعية والمادية. شعر بعدها البلطجي بالأمان للمرة الأولى كمواطن ذي حقوق مثله مثل البقية، وبأنّ هذه البلاد تحمي أحلامه وأحلام صغاره، بالإضافة إلى لقمة عيشه.
في «بعد الموقعة»، يوجّه يسري نصر الله نقداً كبيراً لممارسات الثوار مع تقديس كامل للثورة، ونقداً كبيراً للفلول مع نقد التضليل الكبير الذي تعرّضوا له من قبل النظام وحمّله المسؤولية الكاملة لكل الإحباط الموجود لدى الشخصيات. هنا لدينا ثوار انتهازيون ومتطفلون يدخّنون الحشيشة، ولدينا ثوار متطرفون بالغوا في نقدهم للآخر حتى رفضوه (شخصية الشاب المسؤول عن توزيع طعام الخيل، ولدينا حوار حقيقي ديموقراطي بين نسوة ليبراليات حول الثورة. ولدينا مواطنون أطلقت عليهم تسمية بلطجية وهم خاضعون بالكامل لسلطة رجال الأعمال المتسلطين الذين يعبثون بعقولهم كيفما أرادوا (جسّد الدور صلاح عبدالله). لكن البطل البلطجي الرئيسي يرفض الانجرار وراء رغبات رجال الأعمال في التحول إلى العنف أو إلى جهاز أمن دولة جديد ضد أبناء حيّه (نزلة السمان).
ويبقى أن نشيد بالحس الشاعري الرمزي العالي في الفيلم ممثلاً في علاقة باسم سمرة بالمكان والأشياء. هذا الشاب الأمي الجاهل الذي ينتمي الى الطبقة المسحوقة من المجتمع المصري يتعامل بشكل يومي مع مصر برموزها، وهو من يسمّي الهرم بـ«نيل مصر السياحي»، وهو من حلم طوال حياته بتسلق الهرم/ مصر ليستمتع بالعالم من فوق كتفها.
الهرم الذي يسكن البلطجية إلى جانبه، لا يشكل فقط مصدر رزق لهم، هم الواقعيون الذين اختبروا الحياة منذ الطفولة، فقست عليهم واضطروا لمواجهتها بالقسوة. إنّه يشكّل لهم حلم الطفولة وملاعب الشباب والتحدي. هؤلاء البلطجية لديهم قلوب قاسية لكنها لا تزال تنبض ولا تزال تستشعر مصر.
مصر الهرم، الهرم «نيل نزلة السمان» وواهبها الحياة. رغم أنّه رمز الموت عند المصريين، إلا أنّ هؤلاء وجدوا فيه سبباً للحياة. هؤلاء فرسان الأحياء الفقيرة لم يجدوا غضاضة في الرقص مع خيولهم، وحسن (باسم سمرة) لم يجد غضاضة بعد تحرره من عقدة ذنبه تجاه شعب الثورة (بعدما شارك في «تظاهرة ماسبيرو») من أن يعود ليتسلّق هرم مصر الكبير. يصعد ويصعد ويتعب لكنّه لا يزال في بداية تسلقه لمنجز أجداده العظيم ورمز نهضتها. صحيح أنّ هذا تبييض لصورة البلطجي، لكنه ضروري لبناء مجتمع العدالة الجديد، المجتمع الذي يحلم به يسري نصر الله حيث لا فروق بين المواطنين جميعاً إلا في ما يقدمونه لمصر.
* كاتب ومخرج سوري



كلوت بك

يشرع يسري نصر الله (1952) في تصوير فيلمه الجديد «كلوت بك» في أوائل العام المقبل ليكون جاهزاً للعرض في الصيف المقبل. في هذا العمل، يتعاون صاحب «سرقات صيفية» مع الروائي سمير زكي الذي يقوم حالياً بكتابة السيناريو والحوار للفيلم. علماً أنّ الشريط تدور أحداثه حول شارع كلوت بك الذي كان مليئاً بمعامل تصنيع الخمور في أربعينيات القرن الماضي. وأعلن نصر الله في تصريحات صحافية أنّ الشريط يكشف أسرار وحكايات مصانع الخمور في مصر واستمرارها حتى الآن والعائلات التي تعمل في هذا المجال ونظرة المجتمع إليها.