مَن يخبرنا ماذا يجري؟ هل يقاطعنا سيّاح الخليج لإسقاط حكومة «حزب الله» والإتيان بحكومة حريريّة؟ وهل ناشد الحريريّون حكّام الخليج تفليس لبنان؟ وكيف يدخل مئة دواء إلى لبنان بدون رقابة وبتزوير الوثائق؟ ولماذا يندّد الجنرال عون بمقاطعي الجلسات النيابيّة ويعتبر الأمر تعطيلاً لمصالح الشعب ولم يندّد بإغلاق الرئيس بري للمجلس النيابي طوال سنتين؟
الناس خائفة من الأسوأ. الانتقال ممّا تحت الفقر إلى المجاعة. صار الشباب لا يطمح إلى وظائف مهمّة في الخارج بل إلى مجرّد خدمٍ في المطاعم. لماذا يكون في طرابلس بضعة مليارديريّة على رأسهم رئيس الحكومة ولا يسترزق الطرابلسي إلّا ببضع مئات من الدولارات تُدْفع له كي يقوّص على طرابلسي آخر؟ ولماذا يزدهر في بيروت وغيرها من المناطق مليونيريّة ومليارديريّة حراميّة والمعوزون والفقراء واقفون على الأرصفة يتفرّجون على سعادتهم؟ هل نحن شعبٌ من المخصيّين؟ شحّاذون من أجل كراسي فاشلين؟ ولماذا يزعق السيّد فادي عبّود على التلفون من لندن ضدّ الهيئات الاقتصاديّة التي لم يقل ممثّلوها إلّا جزءاً من الواقع؟ لو كان السيّد عبّود وزير السياحة غير الموجودة، نائباً في المعارضة، هل كان سيغضب لو وضعته الهيئات الاقتصاديّة أمام صورة الواقع أم كان سيغتنم الفرصة للانقضاض على الحكومة؟ ومَن يُسأل إنْ لم تُسأل الحكومة؟
لقد عرّانا الخليجيّون. مُنعوا من المجيء فبان الهيكل العظمي اللبناني في تابوته. مجتمعٌ قائم على «الضيوف». على «كَرَم الزوّار». ما شاء الله. العبقريّة اللبنانيّة كلّها رهن الأراكيل والمطاعم والمعاملتين.
شعبٌ لا يثور على حكّامه في ظروفٍ كهذه مقطوعٌ الأمل من ثورته على الإطلاق. إلّا للتقاتل الطائفي والمذهبي. «الثوريّون» الوحيدون هم المهرّبون.
الادّعاء أنّ الأزمة المحليّة نتيجة للأزمة العالمية سقطت حجّته. موسم الاصطياف (ولا نتكلّم عن موسم السياحة لأنّه شبه زائل) وحده يعوّم قطاع الفنادق والمطاعم والملاهي وفروعاً عديدة من الخدمات لسنة كاملة. سلْ أيّ سائق تاكسي ينبئك بالخبر. إسقاط موسم الاصطياف مسؤولة عنه الحكومة والمعارضة، لا حرب سوريا ولا الأزمة العالميّة. مسؤولة عنه الطبقة الحاكمة بفرعيها الجالس والواقف. هؤلاء الذين يدخلون إلى السياسة والسلطة فقراء ويخرجون مليونيريّة. بمعاشاتهم؟
أفلس اللبنانيّون الأوادم بينما يتمخطر النوّاب والوزراء والمعارضون والأزلام بمختلف أصناف السيّارات المفيّمة والمصفّحة بمواكب مرافقيها القبضايات. شعبٌ مسكين. بريءٌ يظنّ نفسه مقصّراً. يشتغل الأب والأم والابن والبنت ليدفعوا إيجار البيت ويؤمّنوا الوجبات الضروريّة. أمّا الطبابة والاستشفاء فعلى الله. والمحظوظ مَن له أبناء أو أنسباء في المهاجر يبعثون إليه بما يقيه التسوّل.
صار لدينا شعبٌ كامل من محرومي العمل والمصروفين من الخدمة. والآتي أعظم. بلدٌ قاتم لشعبٍ ضاحك. شعبٌ ضاحك رغم حكّامه. رغم وقاحة مسؤوليه.
لا لزوم لأن يخبرنا أحد ماذا يجري. المرجو فقط، ما دام العلاج غائباً، أن يسكت السياسيّون ويخجل المسؤولون وأن يلوذوا بالصمت ويستتروا في داراتهم وقصورهم.
... وأن يبتزّ السياسيّون بعضهم بعضاً بعيداً عن أسماعنا وخصوصاً عن أنظارنا. أمّا ابتزازهم للشعب وسرقتهم إيّاه فليستمرّا ما دام الشعب قادراً على هذا الموت.

■ ■ ■


«لا مذنب هناك أبداً. أقول: أبداً. ولأشهدَنَّ على ذلك»، يصرخ شكسبير على لسان الملك لير.
فيجيبه دوستيوفسكي: «لكنْ ألا تلاحظون، أيّها السادة، أنّي أتوب وأطلب منكم المغفرة عمّا لا أعرف أيّة جريمة؟».
بلى هناك مذنبون ومذنبون جدّاً. الملك يبرّئ الجميع حتّى لا تطاوله التهمة. أو لأنّه متخمٌ بالسلطة ممّا يعطيه أريحيةً فائقة ويصيبه بنوبات تسامح.
بلى يا صاحب الجلالة. التفتْ إلى هذه القرنة الصغرى لبنان علّك ترى الكَذَبة والمرائين والفاجرين وبيّاعي الأدوية المزوّرة وقوّادي النهب والسلب والنبّاحين في وجوه الضعفاء إرهاباً لهم حتّى لا يئنّوا أو يصرخوا.
بلى هناك مذنبون. وليس لجرائم لا يعرفونها بل يعرفونها. وأولاها وجودهم.

■ ■ ■


المجتمع المتخبّط في البؤس والغارق في رمال الفساد المتحرّكة، من زعمائه إلى شحّاذيه، مجتمعٌ ممزّق كهذا، إذا سمع عن ناسكٍ في بعيده قد يحسده حسداً على انعزاله السعيد لكنّه بالتأكيد سيشعر أن نسكه هذا وقاحة. كما يشعر المجنون المهستر أنّ العاقل الهادئ انتهازيٌّ خبيث، أو كما ينظر التائه البردان في صحراء جبليّة إلى الثلج المتساقط على رأسه فيراه أسود.
مَن لا يتعامل بفساد مع مجتمعٍ فاسد يبدو للآخرين حاملَ وباءٍ ويبدو لنفسه معتوهاً.
التكيّف مع السوء موهبة؟ لا، بل وراثة.

■ ■ ■


أَقرأ اليوم ما كتب ويكتب بول شاوول وعبّاس بيضون وشوقي بزيع عن بيروت. كيف تنبض في سطورهم كأنّها في مطلع الصبا. أقرأ عشقها يسطع في كتابات ياسين رفاعيّة، وآخرها روايته الجديدة «القمر بجانبه المظلم». حتّى في قسوة أدونيس عليها بإحدى محاضراته، حبٌّ لها أشبه بالحبّ المثاليّ الجريح. أقرأ بيروت في غوايتها للشعراء الشباب، في «استدراجها» للكاتبات الصبايا، فلا أرى تجعيدةً على وجهها ولا انكفاءً لوهجها. مدينةٌ عجيبة. ليس لها أحد، لا سلطة ولا إدارة، وتسكن كالملكة المستهترة، خلايا دماغ أهلها. كأنّ أهلها «يعرفون» أنّها خالدة. كأنّ بشاعاتها الهندسيّة لا تقوى على طمس فتونها.

■ ■ ■


ولكنْ مهلاً، الاستسلام إلى اليأس ممنوع، مهما بلغ بنا الاستياء والغضب... واليأس.
فما يميت ليس المرض بل اليأس. أُدخِل لبنان سراديب التيئيس بصورةٍ منهجيّة منذ مطلع السبعينات من القرن العشرين. حُوِّلَ كلّ شيءٍ إلى يأس، ابتداءً من الغضب الحلال وانتهاءً بالقضيّة العادلة، وعبر كيمياء استخباراتيّة ماكيافيليّة، تجمع الخبث إلى الاستباحة. عُمِل على تفكيك العُرى وتدمير الرموز. وضعت البلاد تحت قبضةِ التذويب ولم يُترك لها دفاع إلّا ما يزيدها انحلالاً، كالطائفيّة والفساد. بعض الأدمغة عُطبت، بعضها انحرف، بعضها انفجر، وبعضها اختنق من المشهد. ولما كادت الدنيا تقفر القفر المطلق بدأنا ندرك قذارة اللعبة التي مورست علينا. وصلنا إلى الشفير، وقعنا، وثمّة خفيةً مَن استلقّانا، بعدما فقدنا مَن فقدنا وما فقدنا.
الجلجلة التي مشيناها صُلبنا في أعلاها ولم نَمُت. خطيئة هذا الشعب عناد الأمل.
وعلى هذا نعتمد.
إنّ ما كان يعود.
البؤس والإفلاس كانا ويعودان.
والتغلّب عليهما كان وسوف يعود.
ما يميت ليس المرض بل اليأس.
هذه المدينة الطافحة بالفساد والظلم والانقسام والانكسار، سبق أن محاها زلزال، وعادت أجمل ممّا كانت وأبشع. وإنْ يكن، البشاعة مع الحيويّة خيرٌ من الجمال مع الموت.
هذا البلد، الذي يسمّيه أسعد أبو خليل «مسخ الوطن»، أطْلَعَ، في مَن أطلع، أسعد أبو خليل يستطيع أن يسمّيه «مسخ الوطن» بعدما كان يسمّيه «الوطن المسخ» وتستطيع جريدة فيه أن تنشر هذا الكلام ويطالعه القرّاء ولا يهدرون دم الكاتب أو يعتقلونه بتهمة إضعاف معنويّات الأمّة. هذا البلد العجيب الذي شتمناه وجرّحناه في الماضي أكثر بكثير ممّا فعل الدكتور أبو خليل ولم نلقَ منه وفيه إلّا المحبّة، هذا البلد الذي يبارك لاعنيه سوف يظلّ يعثر على يدٍ منقذة.



عابــــــرات

جمالُ المرأةِ ليس هو ما يُخيف الرجل، بل إغراؤها. يتمزّق عقله أمام هذا اللغز. مكتوبٌ للأنثى وحدها هذا الامتياز، مكتوبةٌ لها وحدها هذه القدرة (المخلوقة والمصقولة) على إيقاظ غريزة الرجل والتلاعب بها.
أسعد ما يكون الرجل حين يستسلم لهذا الإغراء (أو يتفرّج عليه بلا مبالاة إذا لم تَرُقْهُ المرأة) دون مقاومة، دون هواجس، ودون مسؤوليّة.
***
تغار عليها، أيضاً، بلا وعي منك، لأنّك تودّ التخلّص منها. السبب أنّك لا تملكها كما ترغب، امتلاك الأصل والظلّ، امتلاك ما تظنّه أُمّك.
***
أخشى جنون التوازن أكثر ممّا أخشى جنون الجنون.
الأوّل انفجار المكبوت، ولا يُعْرَف مداه.
الآخر مواصلةٌ لظاهرةٍ مألوفة، المفاجأة الوحيدة فيها هي الهدوء.
***
تستطيع الغرائز أن تمارس وجودها ضمن أصول الذوق والنظافة. كم يبدو إغراء الحسناء أنْفَذ وأفعل عندما تؤدّيه بنعومةٍ ورهافة، وكم يتردّى في القبح ساعة تقرنه بالفجور.
لا نقتلِ الجسد بالقمع، ولكنْ لا نقتلْه أيضاً بجَرْح الإحساس.
***
في ميزان الأخلاق، أُفضّل العطاء على الحبّ.
الحبّ ليس اختياراً، إنّه قَدَر، حيث تلعب الصاعقة دور الوعي.
العطاء اختيارٌ وسليقة معاً.
***
أحصى بعضهم عدد معشوقات دون جوان بألف وثلاث نساء. الظاهرة الدونجوانيّة ليست خطأً ولا صواباً. إنّها بحثٌ لاهث عن ضالّة واحدة من خلال جماهير النساء، وهذه الضالّة توجد جزئيّاً ومؤقّتاً في بعض الحالات، ولعلّ نسبة الوهم في هذا الوجود أكبر من نسبة الواقع. أمّا الحقيقة البسيطة فهي أنّ هذه الضالّة، أي الحبّ الأقصى، أو المرأة المثاليّة، لا وجود لها إلّا في خيال الشعراء.
كُتُب الشعراء هي التي أعادت خَلْق الرجل والمرأة، لأجل شيءٍ من الدفء، وشيءٍ من البُعْد، وشيءٍ من الدموع.