دمشق | الوليمة السورية باذخة إلى حدّ يفوق الوصف. المسلخ العمومي مفتوح على مصراعيه لكل أنواع الذبائح، ونظراً إلى شهية الحشود، وضيق الوقت، لم يكن ضرورياً أن يكون الذبح على الطريقة الإسلامية بحذافيرها. بإمكانك أن تحزّ عنق الذبيحة ببلطة أو بسيف صدئ، أو رصاصة قنّاص، أو قذيفة، أو بفتوى تكفيرية، فهذه الأخيرة لا تقل فتكاً عن أنواع الأسلحة الأخرى. الموت بضاعة سورية رابحة، في أكبر مزاد للقتل، حتى إن مطابع أوراق النعي، لم تعد بحاجة إلى موافقات أمنيّة مسبّقة، كما كانت العادة.
غرافيتي جماعي تختلط فيه، أسماء الموتى، مع الشعارات والرسوم، على جدارٍ واحد. جدار ستخترقه قذيفة ضالة، كجزء من جماليات المشهد.

■ ■ ■


الرصاص قبل قليل في ساحة يوسف العظمة. رائحة البارود تهبّ إلى الشوارع المجاورة، فتختلط برائحة القهوة. لا رائحة للياسمين في دمشق، جرياً على عادة مواضيع الإنشاء المدرسية، وبرامج الصباح في الإذاعة. أصوات سيارات الإسعاف تخترق الشارع بعنف. المراوح القديمة في سقف المقهى لا تكفي لتبريد الهواء المخنوق برائحة الدّم. لاعبو النرد، لم يوقفوا اللعب تماماً. التفاتة خاطفة نحو النافذة المطلّة على الشارع، ثم كأن شيئاً لم يحدث، فالأمر يتعلّق بقنبلة صوتية، ورصاص عشوائي في مطاردة اعتيادية.

■ ■ ■


الافتراس. لا أجد مفردة مناسبة سواها، لوصف ما يحدث. عدا الوحشية في افتراس «الآخر؟». نحن إزاء افتراس لغوي في الدرجة الأولى. أن تلتهم الضحية بشهية بلاغية كاملة، مستعيناً بمعجم الجاهلية، وكتب التراث الصفراء، والأقوال المأثورة في إطاحة الخصم، وتكسير الرّكب. افتراس شفوي، وآخر تحريري، وثالث ميداني. في نهاية المطاف، لن نجد أكثر من وليمة عظام!

■ ■ ■


الرجل الذي يرتشف قهوته على ما تبقى من شرفة منزله، ليس متأكداً تماماً، أن حالة الهدوء النسبي ستستمر إلى آخر اليوم، أو أنّ قذيفة طائشة لن تصيبه، أو أنّ رصاصة قنّاص لن تخترق زجاج نافذة غرفة المعيشة. فوارغ الطلقات فوق طاولة المطبخ، وقائع من حرب لم يخضها. الرجل ينهي قهوته المرّة بهدوء قتيل مؤجل.

■ ■ ■


خرائط البلدان التي رسمها سايكس الإنكليزي، وبيكو الفرنسي، على الرمل في ربع الساعة الأخيرة للحرب، قبل نحو قرن من الآن، لم تعجب الكولونياليين الجدد، فكان عليهم أن يعيدوا رسمها مجدداً، لكن بوضوح أكبر: لنا آبار الغاز، ولكم خرائط الرمل!

■ ■ ■


القلاع والمتاحف والآثار الرومانية ساحات حرب مفتوحة. في استراحة المحارب، لم يجد الجندي الضجر ما يفعله، سوى أن يضاجع حطام تمثال الملكة فوق ضريح قدّيس مجهول.


■ ■ ■


لا يشبه أيلول ما سبقه.
رضوض الربيع الثالث، وحطام الصيف الملتهب، تركت للخريف آثام الفصول كلها. موتى، ومقابر جماعية، وجثث بلا أسماء. الطائرات تقصف أهدافاً بعيدة. هناك من كان ينهي قهوته، لحظة سقوط القذيفة، فاختلطت رائحة الهال بدمه، فيما حلّقت ذراعه اليمنى خارج النافذة مثل طائر أعمى، ثم ارتطمت بعد دقائق – وهذا افتراض محض ــ بجسد امرأة فقدت للتو ذراعيها. على أي حال، للموتى تدابير إلهية في استعمال الأعضاء المبتورة عند الحاجة، أقله لزوم الصور التذكارية.

■ ■ ■


هناك أيضاً، الضجر. أن تبدأ يوماً، لا تعلم كيف سينتهي. أسطوانة الموت تعيد الموسيقى ذاتها من غراموفون متخيّل، كان حريّاً به أن يبث أغاني أسمهان مثلاً. في الصباح، كما في الظهيرة، وفي الليل المتأخر، الأسطوانة ذاتها تدور، وتدور، وتدور، كما لو أنها عالقة إلى الأبد.

■ ■ ■


الجثث المصفوفة على عجل، في خندق جماعي، عند تخوم حقل ذرة، كما لو أنها مشتل لأشجار حور سامقة، بفارق هندسي بسيط يتعلّق بخصوصية المنظر الأفقي، لكنهما ـــ في نهاية المطاف ـــ كليهما سيصعد عمودياً إلى السماء.

■ ■ ■


أينما اتجهت، في شوارع دمشق وساحاتها وجسورها، يرافقني طيف خوسيه ساراماغو، في مشاهد من روايته «العمى» بعدسة فرناندو ميريليس. أردد عبارة منه «ما أصعب أن يكون المرء مبصراً في مجتمع أعمى!». يجيبني بهدوء العارف «لا أعتقد أننا أصبنا بالعمى، بل نحن عميان من البداية. حتى لو كنا نرى.. لم نكن حقاً نرى»، ثم أستعيد قولاً مأثوراً من الإنجيل «أعمى يقود أعمى، كلاهما يقع في حفرة».

■ ■ ■


الإيعاز السوري الأخير: منبطحاً، واقفاً، منبطحاً، إلى الجحيم سرّ



يوم هرب المتنّبي من قلعة حلب

خرج المتنبي من قاعة العرش في قلعة حلب على عجل. لم يتح له صوت انفجار قذيفة مباغتة بأن يودّع سيف الدولة الحمداني كما ينبغي. كان يتساءل عن صحة ما قاله يوماً في وصف المدينة: «كلما رحبت بنا الروض قلنا/ حلب قصدنا وأنت السبيلُ». في سرداب آخر من القلعة كان «الرحّالة ك» يلملم مسودات مخطوطته السريّة، خشية أن يفقد ورقة منها، في غمرة الفوضى، وما أن وصل الديار المصرية بعد عناء حتى كشف عن كنزه. كتب على الورقة الأولى بخط الثلث «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» ثم خطَّ في أعلى الورقة اسمه الكامل: عبد الرحمن الكواكبي، وافتتح كتابه بهذه العبارة «هي كلمة حق وصرخة في واد، إن ذهبت اليوم مع الريح، فقد تذهب غداً بالأوتاد». بعد نحو سنتين على إقامته في المحروسة، مات الكواكبي مسموماً، ودُفن في مقبرة باب الوزير. هناك من عبث بالقبر، ولا أحد يعرف اليوم أين يرقد الرحّالة كاف؟