ينهض كتاب أحمد بيضون «لبنان ـــ الإصلاح المردود والخراب المنشود» (دار الساقي) على مفصلين أساسيين: الأول هو أزمة الهوية الوطنية اللبنانية ومأزق بناء الدولة الحديثة، والثاني تحديد معالم الشيعية السياسية وتمثلاتها كإحدى الجماعات الطائفية المتغالبة والمتصارعة على الحكم. يتضمن الكتاب مجموعة دراسات منشورة سابقاً أضاف إليها المؤرخ دراسات جديدة تنشر للمرة الأولى. القسم الأول الأشد تماسكاً، والأكثر أهمية يعالج أزمة الجماعات الطائفية كهويات قبلية عاجزة عن التأسيس لمشروع الدولة الحديثة. وإذ يركز بيضون على ضرورات الإصلاح المنشود انطلاقاً من خطاب المواطنَة باعتباره أسّ أي عملية إصلاحية في أي نظام سياسي عاجز عن بناء أمة مندمجة، يعمل على تفكيك الاعتصاب الطائفي، الانشطاري/ التغالبي، ساعياً إلى تأطير أبرز مولّداته في ما أطلق عليه «التبلّر الطائفي» مقابل «التبلّر المواطني». يدرس بيضون اتفاق الطائف من زاويتين: إلغاء الطائفية السياسية وخفة التعامل مع الدستور اللبناني.

يقدم صاحب «الصيغة، الميثاق، الدستور» مادة علمية استقرائية مهمة وجديدة، فهو لا يهدف إلى تأريخ الأحداث، ولو استخدم المادة التاريخية، بل يقرأ مآزق هذا التاريخ اللبناني في أبعاده الثلاثية: استتباع الطوائف، عجز النظام السياسي المولّد للأزمات، وانفلاش الهويات الطائفية المتخصصة.
وفي موازاة «التبلّر المواطني»، يأتي الاعتصاب الطائفي ليعطل نشوء الأمة بعدما تحول التطيّف من الركائز المنتجة لانغلاقات الطوائف ومشروعاتها البديلة. فكيف يستقيم للمواطنين وجود بما هم أفراد عامون أي أعضاء في الأمة؟ لعل هذه الإشكالية تشكل مدماكاً أساسياً للأفكار التي عالجها بيضون في القسم الأول، وتضعنا أمام العجز البنيوي في نمو ثقافة المواطنَة. ولا شك في أنّ للطوائف في لبنان شروطاً ومضادات ورهانات، لا تقل خطورة عن الإخفاقات الدورية والمتتالية للنظام السياسي نفسه، بعدما ثبت إخفاق المبدأ الطائفي، كمعطى سياسي مكرّس وبديل من خطاب المواطنة.
ينتقل بيضون إلى مستوى آخر من التحليل والتفكيك التاريخي. يرصد مفاعيل الوجود السوري على الطوائف نفسها، فما الذي أنتجه هذا الوجود بعد اتفاق الطائف؟ يشير صاحب «بنت جبيل ـــ ميشيغان» إلى أربعة مفاعيل: الأول إضعاف القوى السياسية المسيحية؛ والثاني العهد بمهمة الإعمار وإنعاش الحياة المدنية إلى زعامة سنية صاعدة جسدها رفيق الحريري؛ والثالث توزيع النشاط السوري بين همّين: أولهما همّ الإفادة من موارد الدولة وهمّ المقاومة في الجنوب المحتل وتحريره الذي حظي برعاية سورية وإيرانية، ورابع هذه المفاعيل، إنعاش الثنائية الدرزية التي كانت الحرب قد دفعت بأحد طرفيها إلى الظل.
وعلى إيقاع التضافر الوظيفي بين قوى الطوائف والقوى الخارجية الذي اشتد بعد الحرب الأهلية، يجترح بيضون مصطلحاً سياسياً جديداً أطلق عليه «الطوائف المتخصّصة». أراد بهذا المصطلح الدلالة على المشروع الموكل إلى كل طائفة، فنجده يتحدث عن التحرير الشيعي، والإعمار السُّني، والسيادة المارونية.
يستخدم بيضون مفهوم «المساواة الكارثية» للإشارة إلى المساواة بين الطوائف في لبنان. وبناءً على ذلك، يفكك لعبة الاستحواذ السياسي والطائفي المتبادلة بين الجماعات المتصارعة على الحكم. والحاصل أنّ لبنان أصبح على حد تعبير المؤرخ الراحل كمال الصليبي «بيت بمنازل كثيرة»، وأمسى كما يقول الكاتب «قريب الشبه بميزان بكفات كثيرة». إلامَ سيفضي هذا الاحتراب التغالبي الطائفي؟ وهل يشي بانفجار أهلي أو مذهبي؟ لا يبدو بيضون متفائلاً بفعل تداعيات الصيغة السياسية الراهنة الممتدة عبر التاريخ وجغرافيا الطوائف القلقة على ذاتها ومن ذاتها والخائفة من الآخر وعلى الآخر. تحت عنوان عريض «أشياع السنّة وأسنان الشيعة: كيف حلّ بلبنان هذا البلاء؟»، يدرس بيضون طبيعة الصراع المذهبي الشيعي ــ السنّي الراهن، بعدما شهد لبنان احتراباً إسلامياً مسيحياً. هو لا يكتفي في دراسة مولدات الصراع الجديد وامتداداته الإقليمية، بل يقدّم قراءة جديدة للهوية الشيعية المتشكلة سياسياً وجماهيرياً، بما تحمله من مفاعيل ورموز في المجالين السياسي والديني. وفي ظل الاحتراب المذهبي المباشر والخفي، إلى أين يتجه لبنان؟ لا يخفي بيضون هواجسه من نشوب اقتتال جديد. وهنا، يستعير مصطلح «الفتنة الكبرى» بمدلولها التاريخي والإسلامي بغية قرع جرس الإنذار من تكرار تجربة «الجمل» و«صفين».
ثمة دراسات أخرى في الكتاب، لكنّ الجزء الأول هو الأهم، إذ يقدّم بيضون قراءة نقدية وسوسيولوجية لمأزق الإصلاح في لبنان المحاصر بالخراب المنشود. وتأتي أهمية الكتاب أيضاً من اجتراح مؤرخنا لمصطلحات جديدة يجب إدخالها إلى معجمنا السياسي. عمل بيضون على تعرية الأنا الطائفي القاتل والأكثر حدة في تمزيق الهوية الوطنية الجامعة التي تقطع مع أنموذج دولة الطوائف بعدما أصبح لكل طائفة مشروع قضية.