القاهرة | بعنوان لافت، قدم المخرج أمير رمسيس أخيراً فيلمه الوثائقي «عن يهود مصر» (95 د) ضمن فعاليات «بانوراما السينما الأوروبية» في القاهرة. العنوان التقريري أوحى بحياد لم يكن له مكان في الفيلم الذي انحاز بصورة واضحة لمعنيين رئيسيين: تأكيد النزعة الاستعمارية لاسرائيل، والدفاع عن التنوع العرقي والديني في عالمنا العربي باعتباره طوق النجاة. الشريط أنتجه هيثم الخميسي في مغامرة اكتسبت معنى جديداً عند تلقيها في سياق يشهد جدلاً حول «الهوية المصرية» بعد صعود الاسلاميين الى السلطة.
القراءة المباشرة في الفيلم تنظر اليه كمرثية للتنوع الذي شهدته مصر قبل ثورة 1952. مرثية ذاعت في ربع القرن الأخير من خلال مجموعة من النصوص السردية والمرئية، لعل أبرزها رواية «طيور العنبر» لابراهيم عبد المجيد ومسلسل «زيزينيا» لأسامة أنور عكاشة.
في الجزء الأول من العمل، نستمع الى صوت الطبيب والسياسي المعروف محمد أبو الغار يصف حياة اليهود في مصر حتى العام 1956 انطلاقاً من كتابه الشهير «يهود مصر من الازدهار إلى الشتات». في الخلفية، نشاهد صوراً عديدة لمنشآت تجارية كانت من بين أملاك اليهود المصريين الذين اضطروا لمغادرة مصر في ظل تعقد الصراع العربي الاسرائيلي بعد العدوان الثلاثي عام 1956. وعبر مقابلات سريعة مع مواطنين عاديين، يستعرض الشريط بسرعة التباس صورة اليهود في مصر والخلط بين اليهودي والاسرائيلي. خلط رآه البعض متعمّداً ونتيجة سياسة إعلامية تعبوية دشنها النظام الناصري في نهاية الخمسينيات، وقد سبقته اليها جماعة الاخوان المسلمين التي تأسست عام 1928 ومعها جماعة «مصر الفتاة» (عام 1929) التي كانت ذات ميول فاشية.
ينتقل الفيلم بعدها لرواية مركزية كان يمكنها أن تشكّل عصب الشريط الرئيس لو أراد المخرج ذلك. إنّها رواية المناضل اليساري ألبير راييل، أحد أبرز اليهود المصريين المعاصرين الذين رفضوا مغادرة مصر وظل فيها، بل كان من بين مشاهدي الفيلم خلال عرضه الأول ضمن «بانوراما السينما الأوروبية». في تلك الرواية التي جاءت ذات نبرة حارة ودافئة لم تخلُ من خفة الدم، يشير ألبير الى سنوات نضاله وسجنه مع كوادر سياسية أبرزها المرشد العام السابق للإخوان المسلمين مهدي عاكف. ثم ينتقل الفيلم الى تتبع سير بعض اليهود المصريين الذين خرجوا من مصر أبرزهم الصحافي الفرنسي ألان غريش وأنماط حياتهم في الخارج وصولاً إلى الجيل الجديد من أحفادهم. هكذا، تشكلت صورة رومانسية لمصر تجعلها أيقونة للحنين، وهو هنا اختار أن يشرح مسارات الهجرة. فقد تمكن الأغنياء ومتوسطو الحال من الذهاب الى باريس أو سان فرانسيسكو، واضطر الفقراء الى الذهاب الى اسرائيل حيث أجبرهم النظام المصري على التخلي عن أملاكهم وجنسياتهم.
على الرغم من تميّز الصورة التي قدمها جون حكيم وسلاسة المونتاج الذي نفذه المخرج أمير رمسيس، ثمة ملاحظة رئيسية تتعلق بالاصرار على اختزال الفيلم الوثائقي في تقنية المقابلات. هذه التقنية تفرغه من طابعه، خصوصاً بالنظر إلى طول مدة الشريط، ما أثّر سلباً في إيقاعه وأحاله في أماكن عدة، الى برنامج تلفزيوني وليس فيلماً سينمائياً.



تهمة التطبيع

عن اتهامه بالتطبيع، قال أمير رمسيس: «تلك الاتهامات لا أساس لها من الصحة. فمَن زعم أنّ الفيلم يعمل على تطبيع العلاقات مع إسرائيل، لم يشاهده أصلاً، وفسره بطريقة خاطئة لأنّه ضد إسرائيل وتطبيع العلاقات معها». وكان المخرج قد أعلن أنّه رفض عرض عمله في اسرائيل «لأنّ الفيلم عن مصر والمصريين وعرضه في إسرائيل سيفقد قضية الشريط أهميتها». وأشار إلى أن الفيلم تم تقبّله بشكل ايجابي من قبل النقاد والصحافيين والمشاهدين في مصر. وأشار إلى أنّه يجري حالياً مفاوضات لعرض العمل في عدد من العواصم والدول الاوروبية أبرزها اسبانيا. علماً أنّ «عن يهود مصر» سيُطرح في الصالات المصرية في كانون الأول (ديسمبر) المقبل.



دور اليهود في محاربة الاستعمار



بدا واضحاً أنّ عصام فوزي الباحث الرئيسي في فيلم «عن يهود مصر» ومن واقع اتصاله بالحركة اليسارية المصرية، اعتمد بصورة رئيسية على كتاب «شتات يهود مصر» للباحث الأميركي جوئيل بنين الذي يعد من أبرز المراجع في الموضوع على رغم طابعه الاشكالي. فضّل عصام فوزي إبراز الوجه التقدمي لكوادر الحركة اليسارية المصرية وتجنب الخوض في تفاصيل الصراع الذي نشب داخلها بشأن وضع اليهود على رأس أغلب تنظيماتها، وهو ما يعرف في الأدبيات التاريخية بنزعة «تمصير» الحركة. هذا التيار قاده تنظيم «اسكرا» الذي لا يظهر في شريط «عن يهود مصر»، في حين يطغى صوت ممثّلي حركة «حدتو» (الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني) مثل رفعت السعيد وأحمد حمروش الذي كان في تنظيم الضباط الاحرار وفي الوقت نفسه من كوادر «حدتو». يقدم السعيد وحمروش داخل الفيلم شهادات تاريخية مهمة تزيل الغموض عن دور اليهود في النضال ضد الاستعمار الانكليزي في صفوف الحركة الوطنية إجمالاً، وهو معنى يؤكده محمد أبو الغار مستنداً إلى معرفة مباشرة ببعض المناضلين من اليهود أبرزهم يوسف درويش (أسلم عام 1947) وأحمد صادق سعد وشحاته هارون.
لكن في المقابل، ينشغل الفيلم أكثر مما ينبغي على صعيد زمن السرد بشخصية هنري كورييل (1914 ـــ 1978) مؤسس «حدتو»، كاشفاً عن ظروف خروجه من مصر ثم اغتياله في باريس في 4 أيار (مايو) 1978 وقد دفن هناك. يطرح الشريط مجموعة من السيناريوهات المرتبطة بعملية الاغتيال، وهو أمر يبدو خارج الخط الرئيسي للفيلم الذي اعتنى أصلاً باعادة تشكيل صورة اليهودي في الوعي الجمعي المصري. لذلك، أبرز فيلم «عن يهود مصر» دور رموز الجالية اليهودية في الفن أمثال ليلى مراد وداوود حسني، والسياسة أمثال قطاوي باشا. كان هؤلاء جزءاً من النسيج المصري ولم ينسلخوا عنه. ينغمس الشريط في الكثير من التفاصيل المتعلقة بهذا المسار، وهو مسار يتأكد في روايات اليهود المصريين الذين التقاهم المخرج في باريس. وكان أمير رمسيس صرّح لـ«العربية نت» أنّه لجأ إلى شخصيات يهودية مصرية تعيش في الدول الأوروبية أبرزها باريس، موضحاً أنّهم كانوا يخشون التحدّث معه في هذا الموضوع «بسبب بعض المطاردات التي كانوا يتعرضون لها من النظام السابق» الذي لم يكن يريدهم الخروج على وسائل الإعلام. أما الهدف الرئيسي وراء شريط أمير رمسيس، فهو كما أوضح انتقاد دور الإعلام الذي أسهم في الخلط بين اليهود والصهاينة لدى الشعب المصري، و«إظهار التغييرات التي مرت على مصر في القرن العشرين. ومع اختلاط الدين بالسياسة، أصبح الشعب المصري لا يحتمل من يؤمن بأي ديانة أخرى».
سيد...