يمثّل كتاب «صناعة العدو» (روبير لافون) لبيار كونيسا انفصالاً عن الاستراتيجية العسكرية التقليدية. من خلال مقارنة دولية، يقدّم الكاتب والباحث الفرنسي نوعاً من «دليل مضاد» عن الاستراتيجية لتكرار المصطلح الذي استعمله عالم الاجتماع الفرنسي ميشال وايفيوركا في مقدمة كتاب كونيسا. الحرب هي لحظة انقلاب القيم، لحظة نُجبَر فيها على القتل وإلا قتلنا الآخرون أو حتى معسكرنا الخاص. العضو السابق في لجنة التفكير الاستراتيجي التابع لوزارة الدفاع الفرنسية، ومدرّس العلوم السياسية، يطلع «الأخبار» على الدوافع التي حثّته على الشروع في عمله الجديد: «اشتغلتُ لوقت طويل في مجال الشؤون الاستراتيجية وخصوصاً خلال التسعينيات، عندما اختفى الاتحاد السوفياتي بسقوط جدار برلين فاختفى معه مفهوم العدو وزال التهديد الأساسي. وها قد وجد الغرب نفسه محروماً من العدو التقليدي الذي يمكن رصده بوضوح».
من هذا المنطلق، يتناول بيار كونيسا الفراغ الاستراتيجي. يعارض الأفكار المروّجة، فمقاربته تظهر أنّ الحسابات الاستراتيجية تستند دوماً إلى أحكام إيديولوجية مسبقة، وخرافات، وأكاذيب متعمدة نوعاً ما، ومعلومات غير موجودة بشأن الميدان أو اللاعبين المعنيين. يقرّب كونيسا تفكيره من تفكير كارل شميت، معتبراً أنّ العدو هو الوظيفة الأولى لرجل السياسة. في مقهى باريسي، يخبرنا أيضاً أنّ «الاستراتيجية عبارة عن دمج سياسي واختيار العدو وصنعه. إنّها عمل سياسي تماماً كتدميره» لكن بيار كونيسا يفترق عن كارل شميت لناحية المسار السياسي المتبع «لتدمير العدو» الذي يشرحه في الجزء الثاني من
كتابه.
يقول كونيسا: «بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، من المهمّ التشديد على أنّ الآلة الأميركية تواصل في عالم لا تفهمه إنتاج كتب تُقدَّم في أوروبا على أنها أعمال مرجعية، نجدها اليوم، بعد عشرين عاماً، سخيفة مثل «صدام
الحضارات».
وماذا عن اعتداءات 11 أيلول (سبتمبر)؟ يجيبنا المحلل بأنّ «اعتداءات 11 سبتمبر خطر جدي لكنه ليس تهديداً استراتيجياً كما كانت الحال مع الاتحاد السوفياتي، لأنّه لا يهدد وجود الولايات
المتحدة».
لكن ما هو موقع أوروبا اليوم وقد خرج العالم ما بعد الحرب الباردة من الثنائية القطبية؟ يجيب كونيسا: «تخصّص الولايات المتحدة نصف الإنفاق العالمي على الأسلحة وتدّعي أنّها مهددة. ليست أوروبا وسطية في هذا المشهد السياسي المتعدد الأطراف، لأننا لم نعد في عهد الامبراطوريتين الفرنسية والبريطانية اللتين تديران العالم».
من هذا المنطلق، يظهر كتاب «صناعة العدو» أنّ الفرضية التي تطرح علاقة الديمقراطية والديكتاتورية بالحرب والسلم خاطئة. يقول كونيسا: «الديمقراطية لا تحمل معها السلم وإلا ما كانت المستعمرات الفرنسية والبريطانية قد أقيمت يوماً، وما كان الأميركيون في العراق، وما كان الإسرائيليون قد أقاموا مستعمرات في الأراضي المحتلة. لا بل العكس هو الصحيح، ليست الديكتاتوريات كلها سبباً في إشعال فتيل الحرب. ببساطة، من السهل جداً على النظام الديكتاتوري أن يكتسب عدواً، سواء في الداخل أو الخارج أو في الاثنين معاً (مثال: النازيون: يهود في الداخل ونظام ديمقراطي وشيوعيون في
الخارج).
هذه الفرضية الإيديولوجية تدحض التفكير الغربي. سبّبت الولايات المتحدة وفاة 90 ألف شخص في العراق ولا تزال تعطي دروساً للآخرين».
في الواقع، يدين كونيسا باستمرار إفلات إسرائيل من العقاب وتعيين إيران «عدواً» للغرب، في حين أظهرت دول أخرى تنعم بصداقة الأميركيين أذيةً
أكبر.
هو يحمّل الغربيين مسؤولية جزئية عن عدم الاستقرار في الشرق الأوسط فهم، «لا يريدون تسوية النزاع الاسرائيلي الفلسطيني وما زالوا يريدون إدارة المنطقة.
تذكّرنا الحرب الكاذبة التي شنّها بوش ولم يُحاسَب يوماً عليها، بأنّ بناء العدو عملية اجتماعية وسياسية. من هذا المنطلق، مسؤولية النخبة السياسية والثقافية أهم من طبيعة الأنظمة»، كما نقرأ في الخاتمة. يعتقد بيار كونيسا أنه إذا كانت صناعة العدو تتطلب قراراً سياسياً، فتدميره أيضاً يتطلّب ذلك، كما يظهر من خلال المصالحة الفرنسية الألمانية أو «لجنة الحقيقة والمصالحة» في جنوب أفريقيا.

بيار كونيسا: «صناعة العدو» La fabrication de l’ennemi ـــ دار «روبير لافون»
* ندوة «المقدّس، اللامقدّس، أين هو العدو؟» (30/10 ـــ س:7:00) مع ريجيس دوبريه، بيار كونيسا، فرنسوا بورغا، وبيار أبي صعب

نجوى بركات: بيروت الحرب الأهلية



تضع نجوى بركات في روايتها «يا سلام» (1999 ــ ترجمتها أخيراً إلى الفرنسية فرانس ماير) الشخصيات في مكانٍ مقفل. مخارج الطوارئ الوحيدة هي السجن أو الموت أو الجنون. تدور أحداث الرواية حول ثلاثة أعضاء قدامى في الميليشيا: لقمان، ونجيب القناص، والأبرص. يراود هؤلاء حنين إلى زمن الحرب ويعانون من عودة زمن السلم لأنّهم فقدوا امتيازاتهم، مع نهاية حكم السلاح رسمياً. بموت الأبرص، تفوِّت «سلام» فرصة اكتساب لقب «سيدة». لقبٌ يستحوذ على تفكيرها، فترضخ لإذلال لقمان الذي تعيله، آملة أن يتزوجها يوماً ما. لكن «تحرير» نجيب من «العصفورية»، ينقذ لقمان من خطيبته «القبيحة» سلام. بعدما بدأ نجيب بدراسة الجرذان خلال فترة احتجازه في الملجأ النفسي، بادر إلى تأسيس شركة لمكافحة الجرذان، مع لقمان وسلام. ومن خلال هذه الشركة، تمكّن لقمان الأكثر تبصراً وقدرة على التلاعب بالشخصيات من الدخول إلى حي الأثرياء، تاركاً أصدقاءه في بؤسهم الجنسي.
في رواية بركات، تنكر النساء وفاة الأقربين (الأحباء، والأبناء، والأشقاء، والآباء) وينكرن الجرائم التي يرتكبنها (قتل الابن، الشقيق). في المقابل، يضمن العنف للرجل صفاء الرؤية، ومن يفشل في أن يكون همجياً «يفقد رجولته»، فيستسلم للدموع ثم يغرق في بحر الجنون والموت.
بهذه الطريقة، يعيدنا التعايش العدائي بين الرجل والجرذ إلى طبيعة الأول الغريزية في إطار الحرب. جرذ المدينة، شبه الإنسان ومنافسه، هو المخلوق الوحيد، إلى جانب الرجل، القادر على القتل لمجرد المتعة، كما نرى من خلال متعة عناصر الميليشيا الذين يلاحقون المدنيين على الحواجز، يعرّونهم، ويسيئون معاملتهم قبل أن يغتصبوهم أو يقتلوهم، إن كانوا لا يستطيعون مقايضتهم بمعتقلين لدى العدو.
الجرذ بات مجرّد انعكاس للإنسان العنصري بطبيعته الذي يعيش على هامش الماضي، والقصف وساحة المعركة، لأنّ الحرب باتت جزءاً لا يتجزأ منه بعدما عاشها. يرمز الجرذ إلى الهلاك، فهو قادر على نشر الطاعون، وخطير لأنّه يحمل الأمراض والموت. من هذا المنطلق، تمثل هستيريا سلام في النظافة «نبذاً لكل ما هو غير نقي» وللجنس في محيطٍ مُسيَّج بالمحظورات. في نهاية الرواية، بعد «الارتياح» الجنسي، تدع سلام شقتها للقذارة والجرذان والصراصير، بعدما واجهت المرض، والموت، والجريمة والجنون.
في تركّز الأوهام هذا، يرتبط الجسد ارتباطاً وثيقاً بالمدينة. وتفرض شخصية «الرفيق» نفسها بشكلٍ طبيعي. إنّها شخصية تلازم لقمان وتتحدّث إليه؛ ليست إلا عضوه الذكري، لأنّ القاتل لا يثق إلا بغريزته التي شخّصتها الراوية، فهي «تورط» الجسد في عملية الكتابة. في نهاية الرواية، ننبش باطن بيروت (التي لا يرد ذكرها أبداً) والآثار التي خلّفتها 17 حضارة متعاقبة، آثارٌ مُهدَّدة بسبب الجرافات التي تعمل على إعادة إعمار المدينة. وفي أعماق العاصمة، تصدم كل تجربة حسية بعنف جسد سلام التي تُرضِع أخاها وتقتات من «الغضب والحنق».
ينجح لقمان و«الرفيق» في ارتقائهما الاجتماعي من خلال التحكم بطاقة لقمان الشهوانية و«ترويضها» بعد لقاء الفتاة المثقفة الجميلة والثرية، الآنسة شيرين التي يطمع كثيرون بمهرها (جواز سفر فرنسي). تُحدِث هذه الفرصة العجيبة تغييراً جذرياً في شخصية العاشق. بذلك، نشهد تبدل صانع المفرقعات المتوحش، والجلاد ومغتصب النساء إلى «ضحية» حرب رقيقة وهادئة، عاشق حنون وصامت. «هدوء أيها الرفيق، لا عجلة للفوز بالرومانسية. شيرين الجميلة، ينبغي جعلها تموت من الرغبة وتبكي من المتعة».
تتحدر شيرين من البورجوازية، مفتونة بـ«بؤس» لقمان، لأنّها تشعر بالذنب بسبب الامتيازات التي حظيت بها. فتقع في الفخ. تهيم «الأميرة» الشابة والجميلة بجنون في حب لقمان الوسيم و«الفقير». لكن الماضي لا يرحم، والروابط بين الناس الذين يتحدرون من الطبقة نفسها متينة بشكلٍ لا يسمح بأي انفصال أو وداع.


* نجوى بركات: «يا سلام» Ya Salam ــ دار «آكت سود» (ترجمة فرانس ماير)
* لقاء مع نجوى بركات (3/11 ـ س:4:00)

برنار بيفو: مريض الأسئلة



النجم التلفزيوني الفرنسي يسلّط الضوء على حياته في ظل الشهرة. من خلال «أجل، لكن ما هو السؤال»، يحكي بخفة أحداثاً وقصصاً على لسان بطله آدم. كتابه عصي على التصنيف، فـ «الذكريات المفبركة هي الألذ»

برنار بيفو مصاب بما يسميه «مرض طرح الأسئلة». مرض عضال يصيب من لا يستطيع الامتناع عن طرح الأسئلة. كتابه الذي صدر حديثاً عن «منشورات النيل» يحمل عنوان Oui, mais quelle est la question «أجل، ولكن ما هو السؤال؟». يعرض بيفو فن التساؤل وتقنياته في إطار رواية تخيّل ذاتي، يسلط من خلالها الضوء
على حياته في ظل الشهرة. لقد اعترف رسمياً خلال مقابلة أجريناها معه سابقاً في مناسبة صدور كتابه «قاموس محبي النبيذ» Le Dictionnaire amoureux du vin، بأنّه سيقلل من نشاطاته العامة ليستفيد بشكلٍ أفضل من حياته الخاصة. لكنه لا يفعل ذلك، ويبرر ذلك بالقول: «عملي في أكاديمية «غونكور» يستغرق وقتاً طويلاً. لكن عندما أوقفت برامجي التلفزيونية، تغيّرت حياتي وتمكنت من تأليف الكتب، وهو ما لم أكن أستطيع القيام به في السابق. ثمة فتراتٌ تكون الضغوط فيها أقل مقارنة بفترة برنامجي «بويون دو كولتور» Bouillon de Culture و«أبوستروف» Apostrophe. على أي حال، ما زالت أيامي محكومة بضغط المقالات التي ما زلت أكتبها لصحيفة Journal du Dimanche والتزاماتي تجاه أكاديمية «غونكور»، والقراءة والكتابة... لا أملك ما يكفي من الوقت فعلاً. كنت آمل أن أتمكن من السفر، وهو أمرٌ لا أستطيع لسوء الحظ أن أفعله
كثيراً».
في كتابه الجديد، لا يتناول الصحافي والمذيع التفلزيوني الفرنسي سطوع نجمه كما قد نتوقّع. هل هو شخص لا يُستغنى عنه؟ يجيب: «كلا، إطلاقاً! المقابر مليئة بأشخاص ظننّا أنّه لا يُستغنى عنهم. يأسف الناس على رحيلي من التلفزيون، لكنه مجرد شعور بالتعاطف والحنين. يسعدني ذلك كثيراً بلا شك. لا أحد يدير البرامج الأدبية كما كنت أفعل لأنّ لكل واحد شخصيته. تماماً كما لن أتمكن من إدارة بعض البرامج كما يفعل البعض اليوم. لكل منا تاريخه ومزاجه».
يتطرق الجزء الأول من الكتاب إلى مسائل مطروحة بروح الدعابة، والخفة والإثارة. يتحدث بيفو عن جرأة بطله آدم (برنار) الذي كان يقلب في طفولته الأدوار خلال الاعتراف، ويبادر بنفسه إلى طرح الأسئلة على الكاهن، أو يسأل والديه، المُحرَجين والمصدومين، متى وأين مارسا الحب للمرة الأولى. ثم يذهب متسلحاً ببعض الحلوى من متجر «لا دوري» ليسأل جدته متى «فقدت عفتها». الجدة «ضحكت كثيراً»، لكن الجد كان أقل تعاوناً عندما طرح عليه السؤال نفسه. لكن لماذا اختيار اسم آدم؟ لأنه اسم الرجل الأول الذي طرح على نفسه عدداً من الأسئلة أكثر من أي رجل آخر و«الذي مات وهو يتساءل ماذا كان يفعل على هذه الأرض».
في الفصول التالية، يتلذذ برنار بيفو بالمزج بين الصواب والخطأ، زارعاً الشكوك حول طبيعة عمله الأدبي: رواية أم قصة خيالية؟ هذا هو السؤال. يجيب برنار بيفو: «كتب فرنسوا نوريسييه، الرئيس السابق لأكاديمية «غونكور»: نعرف جيداً أنّ الذكريات شبه المفبركة هي الألذ. المهم هو المعنى العام.
من المثير والممتع مزج الأكاذيب ببعض الحقائق، وصبغ الحقائق ببعض الأكاذيب. عند قراءة الكتاب مجدداً، تبدو لي المشاهد المبتكرة حقيقية أكثر من المشاهد التي حصلت
فعلاً».

* برنار بيفو: «أجل، ولكن ما هو السؤال؟» Oui, mais quelle est la question ـــ «منشورات النيل»
* ندوة بعنوان «النبيذ يكشف أسراره» (31/10 ــ س:6:00) مع برنار بيفو، جان نويل بانكرازي، مورييل روزولييه، وفارس ساسين

دومينيك إدّه: سوريا عشية الانفجار



تبدو رواية «كمال جن» أشبه بـ«نبوءة» تناولت فيها دومينيك إدّه المجتمع السوري، عشية انفجاره المستمر حتى اليوم. تختلط سيرة بطلها السوري مع سيرة بلده المحكوم بالصراع في الشرق الأوسط. بغية تشكيل لوحة على ضفتي المتوسط، تتناول الروائية الفرنكوفونية اللبنانية خصائص وطباع عشر شخصيات تتحدث لغات متعددة، وتعتبر العالم موطنها بعدما تبددت أوهامها، فباتت تجول هائمة في عواصم العالم: باريس، بيروت، دمشق، تل أبيب ونيويورك. هذه الشخصيات المتناقضة والمعذبة بسبب أصولها غير قادرة على تجاوز انتمائها إلا من خلال اجتياح مدمّر. «متجذرة» كما يُفترَض بها في المجتمع العربي، تكبت الشخصيات بصمت الصدمات والمعاناة التي تعرضت لها وتغرق بهدوء في بحر الجنون، كما يوحي اسم إحدى شخصياتها الرئيسة «كمال جن»، حيث الكنية مشتقة من فعل «جُنَّ». صحيح أنّ هذا العمل الأدبي، الذي يراوح بين الرواية الجاسوسية والرواية الأطروحة، يتطرق إلى المشهد السوري قبل وقت قصير من اندلاع الثورة، لكن لا يغيب عن بال دومينيك أحد الأسباب الرئيسة لمصيبة العرب: إقامة دولة إسرائيل. تدين إده صمت الغرب المشلول وتواطؤه بسبب شعوره بالذنب تجاه إبادة يهود أوروبا، وهذا ما يجعل الدولة العبرية تفلت من العقاب، ويسمح لها بمواصلة انتهاكها اليومي لحقوق الفلسطينيين والعرب.
تتميّز «كمال جن» بالحكمة والتبصر والوضوح. تعطي المجال الأدبي لحرية التعبير لدى الشخصيات العربية، كما للأصوات ذات الأصول اليهودية المضطهدة بسبب معارضتها للسياسة الإسرائيلية. من هذا المنطلق، تفضح إدّه جنون العظمة الإسرائيلي، وتنتقد وجود نمط عربي معين «مناهض للسامية» عبر الخلط بين اليهود والصهاينة.
إن كان ذلك أمراً استثنائياً، فرواية «كمال جن» هي كذلك فعلاً، لا بسبب تزايد الروايات من هذا النوع (رواية جاسوسية تدور أحداثها في الشرق الأوسط)، بل لأنّها المرة الأولى التي يُطرَح فيها الموضوع من وجهة نظر العرب، وتحديداً من وجهة نظر البورجوازية الفكرية المهاجرة. بجسارة غير مسبوقة، تجرأت الكاتبة على اختيار رئيس جهاز المخابرات السورية بطلاً لروايتها في بداية الثورة السورية، في وقتٍ لم يكن فيه جدار الخوف قد سقط بعد. تتطرق إده إلى مجزرة حماة عام 82، وتدين الترهيب الذي مارسه النظام السوري: الاغتيالات التي عُرِضَت بشكلٍ مسرحي على أنها عمليات انتحار لمسؤولين في السلطة، وعمليات التعذيب المروعة في السجون (هناك إشارة إلى مجزرة سجن «تدمر» عبر شخصية الأصولي مراد). هكذا، ترسم الرواية المصير المؤلم للسوريين على يد نظام مستبد خلف جدران مغلقة. كما تدين الرواية الممارسات المعيبة في المجتمعين السوري واللبناني، وتتطرق إلى المحظورات المرتبطة بحالات الانتحار التي ينبغي التستر عنها، والمواليد الجدد من دون زواج الذين يُسلَخون عن أمهاتهم، واستعباد العاملات الأجنبيات في المنازل، والاعتداء الجنسي على القاصرين، أو حتى المثلية الجنسية التي تحظرها المجتمعات والحكومات العربية. كل الشخصيات عرضة للاستغلال في مناخ «اللاحرب واللاسلم» السائد في موطن الراوية لبنان، حيث «لا يجدي التكتم نفعاً»، وحيث «الأوضاع سيئة، لكن عجلة الحياة تستمر بالدوران». تتمحور الأحداث كلّها حول «سلالة» آل جن، استعارة تختزل وترمز إلى العائلات التي تشيّد أهرام الأنظمة العربية. كل شيء يُبنى، بعد تفكير دقيق، حول الروابط العائلية، ومصالح الأفراد والدولة. الروابط المنسوجة حول الشخصيات التي تنتمي إلى العائلة نفسها ليست صورة عن شخصيات تشبه تلك التي نقع عليها في الروايات الطبيعية، روابط تحددها عوامل وراثية، لأنّ لعنتهم مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالتاريخ واللعنة العامة.

* دومينيك إدّه: رواية «كمال جنّ» Kamal Jann ـــ «منشورات ألبان ميشال»
* مقال ريتا باسيل في نسخة فرنسية في مجلة Revue Esprit