الثقافة والدبلوماسيّة لا تنفصلان: من السذاجة أن نفكّر عكس ذلك. وفرنسا لها مصالحها الاستراتيجيّة في هذه المنطقة. فماذا عن «رسالتها الثقافيّة»، وهل تقتصر على خدمة سياستها الخارجيّة؟ هل هناك هامش استقلاليّة للثقافة؟ هذه الأسئلة مطروحة عشيّة انطلاق «معرض الكتاب الفرنكوفوني» الذي يطفئ شمعته العشرين في بيروت. ويبدو أن هناك قناعة نضجت لدى القيّمين على المعرض بضرورة إعطائه أبعاداً إقليميّة أوسع, بعدما استعادت السفارة الفرنسيّة إشرافها الكامل عليه أخيراً.
ربّما يخاطر بالوقوع في الكاريكاتوريّة والاختزاليّة، من ينظر إلى الفرنكوفونيّة بصفتها أداة في خدمة السياسة الخارجيَة لفرنسا فقط. لكن، إلى أي مدى يمكنها في المقابل أن تكون أداة تحرّر وتقدّم، بما يتطابق مع طبيعة الإرث الفكري والثقافي الفرنسي؟ أيّة فرنكوفونيّة تجذّر وتنمو هنا، في العالم العربي ـــ الإسلامي، حيث الجماعات والشعوب لم تشفَ من قهرها الداخلي والخارجي، ولا تملك غير الحلول الراديكاليّة خياراً، بسبب تلك العلاقة المختلّة ـــ أكثر من أي وقت مضى ـــ بين الشمال والجنوب؟ هل من السذاجة القول إن الثقافة بإمكانها أن تصلح شيئاً في هذا الخلل، وإنّها الفضاء المثالي لإعادة الاعتبار إلى الآخر المقصي والمؤبلس، من خلال عمليّة حوار وتبادل وتفاعل، يتساوى فيها طرفا العلاقة المتوتّرة؟
يبدو أن القيّمين على الدورة الحاليّة من «معرض الكتاب الفرنكوفوني» وضعوا هذا الهدف نصب أعينهم، أو على الأقل أن السؤال يؤرقهم ويشغلهم. وأنهم مسكونون بهاجس الخروج من الدوائر التقليديّة الضيّقة التي عزلت الفرنكوفونيّة الرسميّة نفسها فيها طويلاً، سياسيّاً واجتماعيّاً وطبقيّاً وأيديولوجيّاً. الخروج إلى المجال الأرحب المفتوح لكلّ اللبنانيين، والمشرّع على خطاب تعددي ومركّب وتقدّمي يقطع جذريّاً مع «الانعزاليّة»، بما هي اغتراب فئة عن محيطها، وتعاليها عليه، وتماهيها مع «الخواجة» ولغته. (هناك ندوة هذا العام مثلاً، من بقايا زمن الانتداب، عن «الرابط الديني بين فرنسا ولبنان»). أكثر فأكثر يتسع المعرض الفرنكوفوني للغة الضاد مرجعاً، وشريكاً في المعادلة التفاعليّة، لكنّنا لن نقع على أجنحة تعرض كتباً بالعربيّة نقلت من الفرنسيّة، أو ذهبت إليها، أو تدور حولها. أكثر فأكثر، سنسمع أصواتاً، ونلتقي وجوهاً من خارج «الفكر الأوحد» المهيمن اليوم على «العالم الحرّ». لكنّنا لا نفهم لماذا أطلق على «غونكور العربيّة» (وهي فكرة ممتازة)، اسم مقلق هو «خيار الشرق». أي شرق يا جماعة؟ الطلاب الذين سيختارون الرواية الفرنسيّة الفائزة هم من سوريا وفلسطين والأردن والعراق ومصر ولبنان. ألهذا الحد تفوح رائحة كريهة من الخيار «العربي»؟
الفرنسيّة، منذ النهضة، نموذج تغيير وتنوير في ديار العرب. وهي بعد سمير قصير، بشكل عضوي ومن دون مركّبات نقص، لغة لاحتضان الوجع العربي، والنفَس العربي، والمشروع النهضوي العربي. وربّما كان على فرنسا، كي تعزّز دورها الرائد في «الشرق»، أن تزداد «عروبةً»... عن طريق الثقافة. هذا حقّنا على بلد فولتير، نحن أبناء المستعمرات القديمة!