دمشق | في مشهد من فيلم «أيام سنة 36» لأنجيلوبولوس، نبدو كأننا أمام مشهد بعثي سوري، حيث يُوضع الحجر الأساس لملعب رياضي يفتتحه الوزير. لغة الوزير، والتصفيق على كلام لا معنى له، وكلمة الرياضي كلها تشي بأننا أمام مشهد حضره السوريون طيلة عقود خلت. ويُظهر فيلم الخيال العلمي V for Vendetta لمخرجه جيمس ماك تيغ التشابه مع الحالة السورية كثيراً، من دون أن يكون مطابقاً لها.
الأطفال الذين يكتبون شعارات الحرية على جدران مدينة لندن، التي يتوقع الفيلم أن تحكم بحزب يميني شمولي في المستقبل، هم أنفسهم أطفال درعا، الذين كانوا شرارة الانتفاضة السورية، لتبدأ أحجار الدومينو بالتساقط، مفكّكة في طريقها أسس النظام الشمولي الذي نشهده بأم العين، عدا كثافة الأسئلة المطروحة في الفيلم، وخصوصاً تلك المتعلقة بجدوى اللجوء إلى العنف من عدمه لتحقيق أهداف سامية، وتشريح بنية الاستبداد وطريقة مواجهته الثورة التي تعصف بأركانه، إذ يبدو كأنّ كل النظم تتشابه في حلولها الأمنية المستندة إلى مؤامرة خارجية وعنف داخلي مطلق يفسح المجال أمام الفوضى والإرهاب بهدف إخافة الناس وإعادتهم إلى بيوتهم.
أما فيلم «جوع» لمخرجه ستيف ماكوين، فيتحدث عن الإضراب عن الطعام حتى الموت، الذي نفذه إيرلنديون في سجن «مايز» البريطاني، بعد صدور قرار الحكومة البريطانية بإسقاط الصفة السياسية عن مساجين من الجيش الجمهوري الإيرلندي، ليعاملوا كمجرمين جنائيين، ما يستدعي مقاومة عنيفة من المعتقلين، تبدأ بالعري وعدم الاستحمام، وتنتهي بالإضراب عن الطعام حتى الموت. هكذا، يستشهد البطل بوبي ساندز بعد 66 يوماً من الإضراب، ويعلّق الإضراب بعد سبعة أشهر انتهت باستشهاد تسعة رجال، وبعد تلبية الحكومة مطالب السجناء المتضمنة الاعتراف بوضعهم السياسي. وهنا يكون الفيلم مرآة لما يحصل في السجون العربية والسورية، ويذكر بإضرابات السوريين الحالية عن الطعام في محاولة منهم للفت انتباه العالم إلى موتهم.
الأفلام السابقة (وغيرها الكثير) التي عالجت مسألة الاستبداد والسجون والثورات ضد الطغاة، تطرح أسئلة مكثفة عن دور السينما والفن عموماً في فضح الاستبداد، عبر مستويين اثنين: الأول هو البحث في مدى تأثير تلك الأفلام في توعية الجماهير للمطالبة بحريتها والثورة ضد نظمها المستبدة. والثاني أنّ مقاربة الأمر في السينما العربية والسورية ستجعلنا نرى قلة الأعمال التي فضحت الاستبداد، رغم وجود سينمائيين ومخرجين وممثلين كثر وقفوا في وجه الاستبداد ولهم مواقف مشرفة على هذا الصعيد.
في تحليل المستوى الأول، سيلاحظ أي مدقق في تفاصيل الانتفاضات العربية والسورية تحديداً أنّ أغلب الناشطين السوريين وضعوا في بداية الانتفاضة السورية صور رجل مقنع هو v، وهو بطل فيلم «فنديتا»، كدلالة على تحدي السلطات، وكدعوة للناشطين الآخرين والشعب لمتابعة الفيلم الذي يقدم جرعة وعي متقدمة لفهم أساليب المستبد في مواجهة الانتفاضة، وبالتالي تطوير أساليب مقاومة في مواجهة الاستبداد. ولعل وضع صورة بطل الفيلم واحد من هذه الأساليب السلمية التي تستفز السلطات. وهو ما يعني في نهاية المطاف أنّ السينما تؤدي دوراً بارزاً في فضح آليات الاستبداد، وتكون معول هدم في بنيته الصلبة على المدى الطويل.
في تحليل المستوى الثاني، سنجد أنّ السينما العربية والسورية تغيب عنها الأفلام التي تفضح المستبد على نحو واضح ومباشر في مقابل حضور طاغ لمخرجين وقفوا ضد الاستبداد مباشرةً. الحالة السورية قد تكون معياراً للنظر في هذه الإشكالية، فالإنجاز السينمائي الذي يتعرض للاستبداد نادر جداً، مثل «طوفان في بلاد البعث» لعمر أميرلاي، و«الليل الطويل» لحاتم علي، و«زبد» لريم علي، وسلسلة أدب السجون لهالا محمد، وهي: «قطعة الحلوى»، و«رحلة إلى الذاكرة»، و«إذا تعب قاسيون»، وسلسلة أفلام «أدب المقاومة»، وهي: «مديح الكراهية»، و«كم لنا»، و«أنا التي تحمل الزهور إلى قبرها» لهالة العبد الله، إضافة إلى أفلام أخرى عالجت الأمر على نحو جزئي وموارب، أي من دون أن يكون الاستبداد موضوعها الرئيسي، عدا كون الأفلام ممنوعة من العرض في سوريا، ما يجعلها تفقد خاصية التأثير في المجتمع. في مقابل ذلك، تحضر الأسماء السينمائية السورية (مخرجاً وممثلاً وناقداً) في مقارعة الاستبداد بشخوصها ونضالها على الصعيد الشخصي، أكثر مما تحضر بإنجازاتها في هذا المجال. يغدو عمر أميرلاي، وأسامة محمد، وهالة العبد الله، ونضال حسن، ونضال الدبس، ومي سكاف، وهيثم حقي، ومحمد ملص، وهالا محمد، وحسان عباس (كناقد سينمائي)، وفدوى سليمان، ولويز عبد الكريم، وفارس الحلو، ويارا صبري، وريم علي وغيرهم الكثير حاضرين بأجسادهم ومواقفهم لمقارعة الاستبداد، بما لذلك من دور بارز في تثوير الجماهير. يؤدي الفنانون دوراً بارزاً في هذا الأمر، وهو ما تنبّه إليه النظام السوري باكراً، فهدّد الكثيرين منهم، ليرضخ البعض ويذهب البعض الآخر إلى أقصى المواجهة.
في تحليل المفارقة السابقة (غياب الفيلم وحضور السينمائي) سنجد أنّ الأمر يعود إلى بنية الفن السينمائي نفسه. يغدو من المستحيل إنتاج فيلم يتعرض للاستبداد على نحو مباشر وواضح، في ظل السلطة القائمة، لأنّ من الصعوبة بمكان فعل الأمر سراً أو بشكل شخصي على نحو ما يكتب الروائي ملتحفاً بعزلته. الرواية فن ذاتي ينجز سراً فيما السينما فن جماعي لا ينتج إلا جهراً، عدا عدم القدرة على عرض الفيلم ليؤدي دوره في توعية الجمهور بسبب هيمنة السلطات على الفضاءين العام والخاص في البلد، وما سماح السلطة بإنجاز الأفلام السابقة، أو غض النظر عن مخرجيها، من دون أن تغض النظر عنها بدليل، منعها من العرض، ليس إلا من قبيل «التنفيس» الذي تتخذه السلطات أداة لتفريغ الاحتقان. لذا، سنجد أنّ الفيلم الفاضح في زمن الاستبداد يأتي من الخارج، مقابل حضور السينمائي الذي يصبح ناشطاً متكئاً على سينمائيته، وشهرته، التي تفتح له المجال واسعاً نحو قلوب الثائرين. الأدلة على ما سبق كثيرة. أغلب الإنتاج السينمائي على مستوى العالم، الذي يتعرض للاستبداد، أنجز في ظل الثورة أو بعد رحيل المستبد، لأنّ السينما فن مرتبط بالديموقراطية بطريقة أو بأخرى. ولعل الكمّ الكثيف للأفلام الوثائقية التي أنتجت في ظل الانتفاضة السورية دليل على ذلك. يبقى انتظار نهاية زمن الاستبداد لنرى ما سيقدم إلينا السينمائيون العرب والسوريون من أفلام قد تكون منارة لشعوب أخرى ستواجه استبداد حكامها ذات مستقبل، كما كانت أفلام الآخرين منارة للشعوب العربية وهي تخوض انتفاضتها للخروج من «الليل الطويل» باتجاه «زبد» الحرية.

* شاعر سوري



«1984»

يغدو فيلم «1984» لمخرجه مايكل رادفورد المأخوذ عن رواية جورج أورويل الشهيرة من أفضل الروايات/ الأفلام التي شرّحت بنية الأنظمة الشمولية من الداخل، مبيّنة كيفية سيطرتها وهيمنتها على الفضاء العام والذهني لمواطنيها، بحيث يصبح الاستبداد ينتج نفسه ذاتياً، بعد قضائه على مقاومة الفرد وممانعته الذاتية التي تصبح قابلة للخضوع لأي شيء، وقد قارب الشعب السوري هذا الأمر طيلة عقود سابقة.