بدا المشهد متوقّعاً قبل بدء الجنازة. وجوه السياسيين المعهودة، وقفتهم على درج جامع محمد الأمين في ساحة البرج، بعضهم بوجه مبتسم، كأنّهم يلتقطون صورة تذكاريّة. «المفاجأة» التي كانت تعدنا بها نانسي السبع على «الجديد» لن تقع طبعاً. لن يترجّل الشيخ سعد… لكن جائزة الترضية ستكون من العيار الثقيل، عودة الساموراي فؤاد السنيورة. «فؤاد لبنان» قال مفتي الشمال الشيخ مالك الشعّار، ومن ذا يكذّب مفتياً؟ لكن أين المفتي قبّاني؟ كانت هناك أيضاً حشود المحازبين بمختلف راياتهم، كما هو متوقّع، حركات الترافلينغ الطويلة للكاميرا ـــ الونش، والرسالة المنتظرة على المستوى الوطني والإقليمي، والخطابات التي تضيع عندها الحدود وتختلط الأدوار بين المرجع الديني (المفترض أنّه فوق المعمعة) بالمرجع السياسي (الذي يمثّل فئة محدّدة من الناس). الشعارات أيضاً لم تفاجئ أحداً، من «الله أكبر» إلى Mikati Dégage و«إرحل إرحل يا نجيب». حتّى الربيع العربي كان منتظراً هنا («الشعب يريد…»)، بعدما بلغ أحط دركات الردّة في أمكنته الحقيقيّة... أمر واحد لم يكن متوقّعاً، سيغيّر الخاتمة، كما الفعل المفاجئ في المسرح الكلاسيكي...
هناك طبعاً اللوعة الحقيقية، والغضب الشعبي. هناك موت، وموت عنيف، واتهامات جاهزة، وجريمة نكراء، سيغيَّب ضحاياها «الثانويّون» كالعادة. في التراجيديا، الصدارة دائماً للأبطال، وخلفهم تمّحي الجوقة والكومبارس. الكومبارس هم الناس، والجوقة هي الإعلام، تروي الأحداث، وتعلّق عليها، وتردد ما قاله البطل. المهمّ، كان يعرف الجميع قبل انطلاق الجنازة أن المناسبة ستكون سياسيّة بامتياز، وسيستغلّها أهل خندق الشهيد، لا نقصد طبعاً رفاقه في مؤسسات الدولة المهدّدة، بل ربعه في المشهد الأهلي المتصدّع. «هيدا لبنان»، تتماهى فيه الدولة هذه المرّة أيضاً مع بعض جماعاتها… حرب الخير والشرّ مجدّداً على الشاشة، على خلفيّة الجنازة التي لن يسمح لها أن تبلغ ذروتها الإنسانيّة والوجدانيّة: بدلاً من أن تكون جنازة وسام الحسن الذي حيّاه الخصوم قبل الأصدقاء، حدثاً وطنيّاً مهيباً جامعاً، سيختار رفاقه أن تكون مهرجاناً حزبيّاً، تسخّر في خدمته المؤسسة الروحيّة، ويزجّ بخصومه سلفاً في خانة القتلة. عادي! مهرجان سياسي آخر في هذه الساحة العتيدة، يخيّل إلينا إنّه أنتج خصيصاً للكاميرات. كل شيء يحدث على التلفزيون كما نعرف، قبل أن ينبري المواطنون الافتراضيّون بمواكبته على مواقع التواصل الاجتماعي. لكن، حذار من تلفزيون الواقع، فهو الموضة الكبرى عندنا في الفترة الأخيرة.
كل شيء كان متوقّعاً في هذه المواجهة المفتوحة التي بدأها رئيس الجمهوريّة بنفسه في المأتم الرسمي في المديريّة العامة للأمن الداخلي… إلا الفصل الأخير. «أنا معكم ـــ قال فخامته ـــ مع الكرامة والسيادة»، قبل انتقال الموكب الجنائزي إلى وسط المدينة، لينطلق المهرجان. مع اقتراب جثمانَي اللواء وسام الحسن والمؤهّل أوّل أحمد صهيوني الملفّعين بالعلم اللبناني، توحّدت الصورة على الشاشات، فيما راوحت التعليقات من محطّة إلى أخرى، بين البديهيّات المملّة التي يمطرنا بها المراسلون لـ«ملء الهواء»، وبين الكلام السياسي المسنون على حجر الفتنة الأسود. على ذكر الفتنة، رأينا أحمد الأسير يصل إلى الساحة، لكن النجوميّة اليوم ليست له في التحريض على العنف المذهبي وأبلسة الآخر واستفزازه. الكاميرا تجول في حرم الجامع الذي غصّ بالشخصيّات والمواطنين. لكن أين ذهب الشيخ أمين والشيخ نديم ووزير الداخليّة؟ أهمّ شيء وزير الداخليّة، فهو سينبعث بلا شك بعد استقالة الحكومة المغضوب عليها. الـMTV لم تكترث لتلاوة القرآن الكريم، كانت المذيعة ما زالت مستغرقة في كلام السياسة، عن ضرورة استقالة الحكومة ـــ مينيموم ـــ جاعلة من سورة (ص) مجرّد مؤثرات صوتيّة. ليتها تسمع: {يا داوودُ إنَّا جعلناك خلِيفةً في الأَرضِ فَاحْكُم بين الناسِ بالحقِّ ولا تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضلَّك عن سبيلِ الله إِنَّ الذِينَ يَضِلُّونَ عَن سبيلِ الله لَهُمْ عذابٌ شدِيدٌ بما نسوا يومَ الحساب}. في الخارج كانت الكاميرا ترينا ما تريد. تحت علم القوّات اللبنانيّة، راح يصلّي رهط من الشبّان يؤمّهم شيخ سلفي. الكلمة «المركزيّة» التي وعدنا بها الشيخ الشعّار، سيلقيها (دولة الرئيس) السنيورة في الخارج أمام الجماهير… بعد مفاجأة صغيرة «من خارج البرنامج»، طالعنا بها الشيخ أسامة الرفاعي بصوته المتشنّج، داعياً «قيادات ١٤ آذار إلى الالتصاق بقاعدتهم»…
هنا اقتربنا بخطى واثقة من لحظة الذروة. إلى الخارج إذاً لنسمع فؤاد (لبنان) السنيورة: برنامج حربي أكثر منه خطاباً «تاريخياً»، مهّد له عريف خاص هو نديم قطيش. كنّا نظنّ أننا انتهينا، حين بدأ الأكشن، بمبادرة ـــ عفويّة؟ ـــ من الإعلامي المذكور الذي حلم للحظة أنّه في موسكو ١٩١٧، أو في باريس ١٧٨٩. المدّ الثوري ألهب حماسة زميلنا، فما كان منه إلا أن دعا الجماهير الهائجة إلى الزحف على السرايا الحكومية. هيّا، لنحتلّ «القصر الشتوي»، لنسقط سجن «الباستيّ». ولم تكذّب الجماهير الثوريّة خبراً. كلا ليست مزحة، الكومبارس صار نجم المهرجان. بزّ فؤاد لبنان والشيخين المناضلين بضربة واحدة. سمعت الحشود كلمته وتوجّهت إلى السرايا الكبيرة. القواعد الشعبيّة انهالت بالعصي على حرس السرايا، رفاق الشهيد وسام الحسن. النائب نهاد المشنوق وجد نفسه في الخطوط الأماميّة يتقدّم الثوار، فيما معلّمه، بصوت من يتكلّم في رقاده، يدعو من الغيب إلى نهاية الحفلة، ويدخل الرفيق الياس عطا الله في الصلحة. بسام أبو زيد مراسل lbc يحاول أن يشرح لنا الموقف، ونانسي انتابها السعال وسط الغاز المسيل للدموع. لحظة قبل أن تطفئوا الجهاز. على MTV قال الضيف العلماني: «هدول سنّة، ما بيجوز السنّة يهاجموا صرح للسنّة». ربيع عربي حقيقي، يعني، أطلقه نديم على طريقة تلفزيون الواقع. دعوا مجلس قيادة الثورة لأهل الإعلام يا شباب… بعد قليل، بعيداً عن «ساحة تيان آن مِن»، سيصل نداء قطيش حتّى إلى قنّاصة المدينة الرياضيّة.