لم يكن أحد يحتاج إلى متابعة مجريات نهار أمس، ليحزر ما ستنتهي إليه مراسم تشييع اللواء وسام الحسن ومرافقه أحمد صهيوني. اليومان الإعلاميان اللذان سبقا «العودة إلى الساحة» قدّما مؤشّراً واضحاً عن الأمر. حملت البرامج السياسية «الطارئة» التي احتلت المشهد التلفزيوني، كلّ مؤشرات الخاتمة السيئة لمراسم تشييع رجل، أجمع اللبنانيون على تسميته شهيداً للوطن. التحريض المذهبي، الموصوف هذه المرة، ليس إلا واحداً من المؤشرات الكثيرة. ومنها مثلاً شتم الدين يتردّد على لسان أحد الشهداء الأحياء، في مداخلة هاتفية تلفزيونية، وليس في فورة غضب أو لحظة حماسة. بدا واضحاً أن لا شيء لدى الطرف المعني باستثمار «الساحة» سياسياً، ليقوله. لا شيء إلا التحريض على «عدوّ»، هو شريك لهم في الوطن شاؤوا أو أبوا. وحده التحريض على هذا «العدو» قادر على ملء الساحة. تماماً كما كان الردّ على تظاهرة 8 آذار 2005 في ساحة رياض الصلح سبباً مباشراً في ملء ساحة الشهداء في 14 آذار من العام نفسه.

تحتاج الجماهير إلى عدوّ لتتجمّع، هذه قاعدة علمية متفق عليها. وهي تجمّعت أمس وقبله في ساحة الشهداء، وصبّت غضبها على «حزب الله» وأمينه العام، فلم توفّرهما من الشتائم البذيئة التي أطلقت قرب ضريح تصدح من أرجائه الآيات القرآنية على مدى الساعات الأربع والعشرين. تماماً كما ارتفعت الشتائم ذاتها ضد الشعب السوري على مدى شهور «انتفاضة الاستقلال» من دون أي مراعاة لحرمة الموتى.
وأيّ حرمة ستراعى إذا كان الحشد هو المطلوب؟ ها هو الضريح يتحوّل مجدداً إلى استديو تنطلق منه الدعوة إلى التظاهر. لا يرضى تلفزيون المستقبل بأقلّ من الضريح مكاناً يطلق منه دعوته. لم تعد ساحة الشهداء، أيقونة «ثورة الأرز»، تنفع. يمكنها أن تكون منصة لقناتي «أم تي في» و«الجديد» اللتين أطلتا منها ليل أول من أمس، أو سارية يرتفع عليها علم الجيش السوري الحرّ. أما بالنسبة إلى «المستقبل»، وحده «ضريح الرئيس الشهيد» برمزيته، قادر على استحضار الغضب مجدداً، على إثارة المشاعر، والدفع بمحبّي الرئيس الراحل رفيق الحريري إلى الشارع مجدداً.
ألم يكن هذا ما فعله الضريح في عام 2005؟ لمَ لا ينجح الأمر هذه المرة؟ أمور كثيرة حصلت في عام 2005، يمكن استعادتها، والنجاح مجدّداً بما أن المحرّك الأساسي للتحرّك موجود: تشييع شهيد «استثنائي» سقط اغتيالاً. هذا ما اعتقدت قيادات 14 آذار أنها ستنجح في تكراره ضمن مشهد «سبقت رؤيته»، أو déjà vu كما قال كثير من اللبنانيين في الأيام القليلة الماضية. كانوا يقصدون أننا نعيش اليوم أجواء مماثلة لتلك التي عشناها عشية اغتيال الرئيس رفيق الحريري. وجوه الشبه كثيرة بين التاريخين. الانفجار الكبير الذي دوّى. الشموع التي أضيئت على الطرقات. الرسائل الهاتفية وتلك الإلكترونية التي تلقاها اللبنانيون للتعبير عن تضامنهم. الطرقات التي أقفلت. المسيرات العفوية التي انطلقت. والشاشات التلفزيونية التي غيّرت برمجتها، وتوحدت على نقل صورة واحدة. كلّها مشاهد أعادتنا إلى 14 شباط 2005. ذلك اليوم الذي أدخل لبنان في المجهول. في مهبّ الريح، كما عنونت الصحف يومها. يوم أسّس أيضاً لتغييرات جذرية مع انطلاق «انتفاضة الاستقلال» و«ثورة الأرز». هذه الثورة حققت سياسياً، وفي وقت قياسي، ما تعجز عنه أبرز الثورات في العالم: استقالة الحكومة، وانسحاب الجيش السوري من لبنان. صدّق قادة 14 آذار أن ثورتهم هي التي حققت هذين الإنجازين. نسوا قانون محاسبة سوريا، والقرار 1559، والدعم الدولي الكبير الذي حصلوا عليه. صدّقوا أن التظاهرات المليونية، والفولارات الحمراء، كانت سبب انتصارهم فحاولوا تكرار المحاولة، مستعيدين أدوات الماضي.
الاتهام السياسي؟ حاضر. الشعار؟ حاضر. صور «المتهمين الأربعة»؟ حاضرة. الساحة؟ حاضرة. الضريح؟ حاضر. الخيم؟ حاضرة. العَلَم؟ حاضر. الشاشات التلفزيونية؟ حاضرة. حتى المواقع الإلكترونية، حاضرة. من يبقى؟ السياسيون؟ الإعلاميون؟ حاضر حاضر حاضر. فلننطلق مجدداً ونعيد كتابة التاريخ.
ها هو النشيد الوطني اللبناني، بتوقيع الفنان راغب علامة، يصدح مجدّداً في ساحة الشهداء. (قد يكون لبنان، البلد الوحيد في العالم الذي يُغَنَّى فيه نشيده الوطني بلحنين). وها هو الشعار يرتفع «الشعب يريد إسقاط النجيب». وها هي الشاشات اللبنانية تعود إلى لعب الدور ذاته الذي لعبته قبل سبع سنوات. في الليلة الأولى للاغتيال، فتح هواء الشاشات التلفزيونية لاستقبال الاتصالات. أربع محطات تلفزيونية كانت حاضرة لاستقبال الداعين إلى الحراك في ساحة الشهداء. «المستقبل»، «أم تي في»، «أل بي سي» و«الجديد». لا صوت يعلو على صوت من حزنوا على اللواء وسام الحسن. لم يتحمّل مقدّم برنامج «كلام الناس» مارسيل غانم، وضيفته مي شدياق، الاستماع إلى رأي النائب حسن فضل الله. بكلّ خفة، رفع غانم يديه امتعاضاً، فيما أشاحت شدياق بوجهها. لم يكن ينقص غانم إلا أن يدير بوجهه عن الشاشة، كما فعل يوماً مع الشهيد جبران تويني. بعدها، أطلّ فضل الله على «الجديد»، ليغيب «حزب الله» عن التصريح الإعلامي.
أما أمس، فتوحدت الشاشة. لا داعي لـ«الزابينغ». الكلّ ينقل الصورة نفسها، كأن الحياة توقفت عند هذا الحدث: الضريح، الساحة، الخطابات التحريضية (ثم يلام الشباب لأنهم تحرّكوا على أثرها ويوصفون بالزعران) والهواء التلفزيوني المفتوح. رغم ذلك، كان النهار باهتاً. لا يشبه 14 آذار 2005 بشيء، ولا حتى بالأعلام التي ارتفعت. خلا «يوم الصدق» ـــ كما أطلق عليه الرئيس سعد الحريري ـــ أمس من أي لحظة صدق مع الجماهير التي دعيت إلى التظاهر، ومع الراحل وسام الحسن (ومرافقه أحمد صهيوني والمواطنة جورجيت سركيسيان). قد تكون لحظة الصدق الوحيدة هي عندما وقعت الكاميرا على وجه مازن الحسن يبكي والده، يحضن شقيقه الأصغر ويقبّله في رأسه. الموت كان الحقيقة الوحيدة التي أشعرت اللبنانيين بأنهم معنيون بما يحدث، قبل أن يهجم «الشباب والصبايا على السرايا».
لحظة. سقط سهواً خلال تعدادنا الشباب والصبايا. من هم هؤلاء؟ ألم يكونوا ضيوف ثلاثة برامج تلفزيونية ليل أول من أمس، ألم يكن بينهم من ساهم في صناعة 14 آذار 2005؟ هؤلاء (بعدما غادرت أكثريتهم لبنان) حلّوا مجدداً ضيوفاً على بعض الشاشات التي كانت قد نسيتهم على مدى سبع سنوات. الاستماع إليهم كان كافياً ليحدّد مجريات أمس. عشية تشييع اللواء وسام الحسن، ذكّر بعضهم بمشاعر الخيبة التي عاشوها عشية انتخابات 2005 و«خطيئة الاتفاق الرباعي». تحدّثوا عن الشارع الذي انطفأ عشية الانتخابات. عن الأحلام التي حملوها وقطفها غيرهم. قالوا ما سبق أن قالوه ووثّقوه في كتاباتهم وشهاداتهم عن الذين سرقوا ثورتهم مقابل مصالحهم السياسية. كان السؤال المنطقي الذي يفترض بأي مشاهد أن يطرحه على نفسه: بعد كلّ ما قلتموه، ماذا تتوقعون أن يحصل غداً؟