ترمم هازل رولي في كتابها «سيمون دو بوفوار وجان بول سارتر: وجهاً لوجه» (الهيئة العامة السورية للكتاب ــــ ترجمة محمد حنانا) ما لم تكشفه كتابات الثنائي الوجودي في السيرة والمذكرات، أو ما تسمّيه «الإغفالات». وإذا بها تتوغل في أدغال هذه العلاقة الملتبسة بين صاحبة «الجنس الثاني»، وصاحب «الغثيان». في كتابها الذي صدر عام 2005، أرادت الباحثة الأوسترالية البريطانية الراحلة (1951 ـــ 2011) أن تضيء جوانب أخرى من السيرة المهملة عمداً، فقد اتفق سارتر ودو بوفوار على أن ينشرا رسائلهما المتبادلة بعد رحيلهما، فلم يتلفا تلك الرسائل. أُصيب القراء بصدمة إثر نشر جزء من هذه الرسائل، فهي تكشف عن أكاذيب مارساها خلال حياتهما، وخصوصاً لجهة إنكار دو بوفوار إقامتها علاقات حميمة مع نساء. ها هي تعترف في إحدى رسائلها لسارتر باللذة التي وجدتها في إغواء إحدى تلميذاتها.
التلميذة التي ستصير لاحقاً إحدى عشيقات سارتر. تنطوي رسائل الحب المتبادلة بين الفيلسوفين الوجوديين على ألم دفين عاشته دو بوفوار بصمت، رغم إنكارها الغيرة من عشيقات سارتر، ذلك أنّهما اتفقا على الحرية الشخصية لكلٍ منهما. يتساءل أحد النقّاد مستهجناً «كيف استطاعت سيمون دو بوفوار العيش مع ذلك الشخص ذي النظارات والصوت المعدني والبذلة الزرقاء المجعّدة، والمهووس بالسرطانات والمثليين جنسياً. في حين تمتلك مثل تلك الحيوية والذكاء والعذوبة؟ يا له من لغز!».
تعترف سيمون في مذكراتها قائلة «ما أضيق عالمي الصغير، إذا ما قيس بعالم سارتر الغني»، ذلك أنّ صاحب «الوجود والعدم» أوصلها إلى حوافٍ غير مسبوقة في اكتشاف معنى الحريّة، وتحويل الحياة إلى سرد يضاهي المتعة الشهوانية، في وقت «كان يُنتظر فيه من النساء الذهاب إلى الكنيسة، ولم يكن بمقدورهن الذهاب إلى الحانات، حتى إنهن لم يجازفن في دخول المقاهي». ويورد سارتر في «الغثيان» على لسان بطله «روكانتان» عبارة مشابهة «لكي يصبح الحدث التافه مغامرة كبيرةً، ينبغي عليك أن تسرده».
تتبع هازل رولي أبرز المحطات التي عبرها هذا الثنائي المتفرّد بما يشبه الأسطورة، إذ إنهما لا يزالان يثيران الأسئلة إلى اليوم، منذ أن اختارا شعار إحدى لافتات ثورة الطلبة في باريس (1968) نبراساً لحياتهما «عش من دون وقت مستقطع». هكذا التهما الحياة بشهيّة كاملة، في مغامرات قادتهما إلى مختلف أصقاع العالم، متحدّين التقاليد الاجتماعية الصارمة، وإن وصلا لاحقاً إلى فكرة «لا حريّة من دون مسؤولية»، ربما بتأثير تبعات الحرب العالمية الثانية. هذا ما نجده في ما كانا يكتبانه في مجلتهما «الأزمنة الحديثة» التي تركت أثراً واضحاً في تطوير مسائل علم الأخلاق، فيما تفرّدت دو بوفوار عبر كتابها «الجنس الثاني» بتأسيس النظرية النسوية الحديثة. وتذكّر هازل رولي بأنّ دو بوفوار السبعينية، غير تلك الشابة المتمرّدة التي ألهمت جيلها، ففي سؤال عمّا إذا كانت قد أغفلت أسراراً لم تكتبها في مذكراتها، تجيب «نعم، كنت أتمنى أن أكون صريحة ومتوازنة في وصف ميولي الجنسية. أن أخبر النساء حول حياتي الجنسية، لأني لم أقدّر أهمية هذه المسألة حينذاك».
بخصوص الحياة الشخصية لسارتر، تبدو الصورة معقّدة أكثر، نظراً إلى مواقفه المتناقضة وشهوانيته التي كانت بلا حدود. يقول «إنني أفضل أن أكون شفافاً، أعتقد أنه ينبغي أن تكون الشفافية بديلاً من السرية».
رحل سارتر (1905 ـــ 1980) قبل دو بوفوار (1908 ـــ 1986) بستّ سنوات، ولم يتح له قراءة ما كتبته شريكته عنه في «وداعاً لسارتر». وبذلك أُسدل الستار على 51 سنة من الشراكة، وسيقرأ العابر أمام فندق «ميسترال» في باريس، الفندق الذي عاشا فيه، عبارة لسيمون تختزل هذه التجربة «كنت أُخادع حين اعتدت أن أقول بأننا كنّا شخصاً واحداً، فالانسجام بين شخصين لا يُمنح أبداً، ينبغي أن يُكتسب دائماً، على رغم العقبات».
ليست الوجودية عتيقة الطراز إذاً، بعد اقتحام نظرية ما بعد الحداثة الساحة، وفقاً لما ترويه هذه الباحثة الأكاديمية، ذلك أنّها ما زالت تمدّ عنقها بين فترة وأخرى، مع اكتشاف أسرار جديدة لأيقونتَي الوجودية، فهما لطالما تجاوزا نظريتهما في مراحل من حياتهما، أقله لجهة حياتهما الحميمة التي ستبقى إحدى قصص الحب المبهرة التي تحتل الواجهة، حتى بعد رحيلهما.