ينطلق غداً الخميس «أسبوع arte» السينمائي في «متروبوليس أمبير صوفيل»، حاملاً في جعبته نخبة من الأفلام التي أنتجتها المحطة الفرنسية الألمانية وشكلت علامة فارقة في جداول المهرجانات العالمية، مع توجيه تحية خاصة إلى المخرج والمصوّر والكاتب الفرنسي الشهير كريس ماركر (1921 ــ 2012، راجع الكادر أدناه). افتتاح الدورة الرابعة من الأسبوع سيكون مع Holy Motors (2012) للفرنسي ليوس كاراكس الذي كعادته أراد أن يكون فيلمه مجنوناً مثله.
يتحدث العمل الفانتازي عن رجل غريب الأطوار (دونيه لافان) يعيش حيوات عدة في جسد واحد. مرة يتقمّص دور المتسول، ومرة نراه راقصاً فمجنوناً، ورجل أعمال ومجرماً... كأنّه يختزل بشخصه المجتمع الفرنسي وتناقضاته. لكن اللافت ليس قدرة المخرج على إشراك أسماء لامعة في أدوار ثانوية كإيفا مانديز وكيلي مينوغ، وإنما قدرته على رسم معالم كل شخصية يتقمصها البطل، إضافة إلى أداء لافان الرائع في تجسيد تلك الشخصيات. هذه التركيبة تمنح الفيلم رونقاً خاصاً وتصنع متعة فرجوية في الانتقال بين الشخصيات المتعددة والغوص في حيواتها. لكن المخرج الآتي من بوابة النقد السينمائي، حافظ على عادته في صناعة أعمال ترضي النقاد ولا تعجب الجمهور. في مقابل الاحتفاء النقدي بالعمل وبغرابته، إلا أنّه لم يترجم أرقاماً في شباك التذاكر.
وبعد «هولي موتورز»، يعرض «عائلة محترمة» (2012 ــ 19/10) للمخرج الإيراني مسعود بخشي الذي قدِّم في تظاهرة «أسبوعي المخرجين» ضمن «مهرجان كان السينمائي». الشريط الذي يؤدي بطولته كل من بابك حميديان ومهرداد صديقيان، يُعدّ من الأفلام الدرامية التي تغوص في خصوصية المجتمع الإيراني، ضمن رؤية تحليلية إلى أسباب الخلل القيمي الذي أصابه، وخصوصاً بعد الحرب العراقية الإيرانية. تلك الحرب بين إخوة الدين وأعداء التاريخ وما تلاها من مشكلات، لم تستطع السنون محوها بعد. الحرب انتهت، غير أنّ تداعياتها السياسية لا تزال شاخصة حتى الآن، ولا سيما من خلال تعامل النظام مع نتائجها. هكذا، ينتشر الفساد وتصبح الإدارة «عصابة» تلفظ كل غريب عنها تماماً كحال الأستاذ الجامعي الآتي من الغربة ليعمل في إحدى جامعات إيران. ومن هنا، يجد «الدكتور» أنّ حتى عائلته باتت جزءاً من تلك المنظومة الاجتماعية والسياسية، فيقف أمام خيارين أحلاهما مرّ: المواجهة اليائسة أو الهروب من جديد.
ورغم أنّه نال سعفة «كان» الذهبية، إلا أنّ شريط «العم بونمي يتذكر حيواته السابقة» (2010 ــ 21/10) للتايلندي أبيشاتبونغ ويراسيتاكول لا يبدو من الأفلام التي ستعجب الجمهور اللبناني. يقوم العمل على قصة خيالية أُنجزت بأسلوب روائي بطيء لا يعتمد على التشويق، بل على الكثير من الخيال. العم بونمي الذي يصارع المرض، ينادم أشباح الماضي ويغوص في عالم من الخيال والروحانيات، فتزوره زوجته المتوفاة وابنه الذي يراه في هيئة غوريلا. ولولا الجائزة الرفيعة التي حازها، لما أُدرج ربما في لائحة الأفلام المعروضة في «أسبوع آرتي».
محبّو الأفلام القضية سيكونون على موعد مع عمل رائع هو «الزورق» (2012 ــ 22/10) للسينغالي موسى توريه. شريط عن الهجرة غير الشرعية التي تمثل خشبة الخلاص لملايين الأفارقة الفقراء الذين يضعون أحلامهم وعائلاتهم في زوارق، لكنّ كثيراً منها لا يصل أبداً إلى «شاطئ الأمان». الفيلم شبه صامت، لا أفق يظهر، ولا بحر، ولا يابسة، كأنّه انعكاس لانسداد الأمل. مجرد ألم وموت، ويأس ينتشر. الفيلم يذكّرنا برواية «تيتانيكات أفريقية» لأبو بكر حامد كهال، لا من ناحية المرض الذي يصيب الركاب، بل في حالة اليأس والحزن الذي يلتصق بمصير المهاجرين غير الشرعيين الذين يسلّمون حيواتهم لتجّار البشر بحثاً عن مستقبل سرقه من بلادهم من يرفض استقبالهم على الضفة الأخرى. العمل الذي نافس على السعفة في «كان» من أكثر الأفلام واقعية، ولعلّ أجملها في «أسبوع آرتي» البيروتي. من الحزن، ننتقل إلى عمل طريف هو «مساء عظيم» (2012 ــ 23/10) للمخرجين الفرنسيين بونوا ديليبين وغوستاف كرفيرن. الشريط يخرجنا من الأفلام الحزينة الى تلك الطريفة. يتحدث عن شقيقين فاشلين يعانيان من مشكلات اجتماعية واقتصادية جمة. يحاول كل منهما أن يتأقلم مع وضعه اليائس من دون جدوى، قبل أن يلتقيا ويتبادلا خبراتهما الفاشلة في حرب ضروس على اليأس. العمل مسلٍّ وخصوصاً بفضل عفوية الممثلين بونوا بويلفورد وألبير دوبونتيل، وأدائهما الجميل، بالإضافة الى حبكة الفيلم الأساسية التي تحمل الكثير من المواقف الطريفة، علماً بأنّ العمل فاز بجائزة لجنة التحكيم الخاصة بـ«نظرة ما». ومن الصين، يأتينا «11 زهرة» (2011 ــ 24/10) الذي يتحدث عن عائلة صينية قروية تواجه الفقر بعدما تضطر للهجرة إلى المناطق الريفية التي قرر النظام نقل المصانع إليها في أواسط سبعينيات القرن المنصرم. غير أنّ الفيلم يحمل الكليشيهات السياسية ذاتها التي تركّز على تعسف النظام وعسكرة المجتمع وانتشار المخابرات في كل مكان. لكن الجميل هو تركيزه على الناحية الفنية، فاستطاع المخرج وانغ أكزاوشواي أن ينقل إلينا الحياة الريفية الصينية بتفاصيلها الدقيقة، فضلاً عن المشاعر الغريبة التي يكنّها الأطفال لحاجياتهم وعالمهم الصغير.
آخر أفلام «أسبوع آرتي» شريط «دييكا أطفال سراييفو» (2012 ــ 25/10) لعايدة بيجي التي تقدم عملاً درامياً تغوص في خلاله في عملية إعادة الاندماج التي يعيشها ضحايا الحروب مع عوالمهم الجديدة. ويتحدث الفيلم عن قصة رحيمة (23 عاماً) وأخيها نديم (14 عاماً) الناجيين من الحرب فيعيشان في سراييفو التي فقدت كل تعاطف مع الأولاد الذين قضوا في حصار المدينة. تحاول الأخت الكبرى التي وجدت سلامها في الإسلام ووضعت الحجاب، أن تواصل الحياة لتفاجأ بأنّ أخاها الصغير يواجه الضياع وأصدقاء السوء. اللافت في الفيلم هو التركيز على بناء الشخصيات، ولا سيما في حالة رحيمة المحجبة، فتركز المخرجة على البعد النفسي للشخصية وتقرّب المشاهد منها كثيراً كأنه يلاحقها ويعيش معها. هذا الخيار الفني جعل الفيلم رائعاً من الناحية الفكرية، ما قاده إلى الفوز بتنويه في «مهرجان كان».
إذاً، ثمانية أفلام من ثقافات متعددة تلوّن أماسي «متروبوليس أمبير صوفيل» السينمائية وتساهم في إبقاء بيروت عاصمة ثقافية بمبادرات فردية تستحق التحيّة.


* «أسبوع آرتي»: بدءاً من الغد حتى 25 ت1 (اكتوبر) ـــ «متروبوليس أمبير صوفيل» (الأشرفية ـ بيروت) ـ للاستعلام: 01/204080 ــ جميع العروض تبدأ عند الثامنة ـــ
www.metropoliscinema.net




كريس ماركر اصطحب هرّه إلى بيروت




مساء السبت 19 ت1 (أكتوبر)، توجّه «متربوليس أمبير صوفيل» تحية إلى فنان واكب أبرز المنعطفات السياسية والاجتماعية في النصف الثاني من القرن الحادي والعشرين، ورصدها بكاميرته. إنّه كريس ماركر الذي خسرته السينما قبل نحو ثلاثة أشهر.
ضمن «أسبوع آرتي»، سيُعرض شريطهChats Perchés (2004 ــ الصورة) الذي يتحدث عن الجدارية الشهيرة لـ«السيّد هر» التي غزت شوارع فرنسا لتكون شاهدة على البلاد وتحولاتها. من خلال ملاحقة السيّد هر، يقدم كريس بانوراما تسجيلية عن تفاعلات فرنسا مع الأحداث العالمية. الجميل في الفيلم هو تلك العلاقة الافتراضية التي صاغها المخرج بين الهرّ والمشاهد كأنّه «حنظلة» الفرنسيين اليساريين، والمدافعين عن حقوق الشعوب المضطهدة. نراه شاهداً على التظاهرات ضد غزو العراق، وساخراً من كذب طوني بلير وجورج بوش حول حقيقة وجود أسلحة دمار شامل في بغداد، كما نراه رافضاً سرقة الفرنسيين لتاريخ بلاد ما بين النهرين وكنوزها وآثارها التي وصلت بـ«سحر ساحر» الى «متحف اللوفر».
غير أنّ تضامن الهر يتخطى العراق ليصل الى حقوق التيبيتيين والأكراد الناشطين والحقوقيين في مختلف القضايا حتى ليبدو هذا القطّ إنسانياً أكثر من البشر.