الرباط | بعد معاناة سنوات مع المرض، توفي أول من أمس عبد الرحمن قيروش (1948) الشهير بـPACO. أحد أبرز أعضاء فرقة «ناس الغيوان» الأسطورية التي شكلت صوت الشعب في المغرب منذ الستينيات. رحل المعلم الكناوي الأشهر في المملكة، مخلفاً وراءه حيوات مختلفة، كان فيها هيبيّاً، ونحاتاً يصقل خشب العرعار ليخلق منه المادة، وموسيقياً ألهم الملايين. في عام 1974، بحثت «ناس الغيوان» عن عازف يدخل الإيقاعات الكناوية إليها.
شاءت المصادفة أن يكون نجاراً مهووساً بالموسيقى، ينحت على خشب العرعار الذي تشتهر به مدينة الصويرة، ويغني خلال ليالي «الحضرة الكناوية». كان ذلك عبد الرحمن قيروش. حين انتقل مؤسس الفرقة بوجميع (بوجمعة أحكور) إلى مراكش بحثاً عن هذا العازف، فإذا به يلتقيه ويعجب بمهارته في العزف والغناء. سيدعوه للانضمام إلى فرقته وسيصير من حينها أحد رموزها
النجوم.
كان شاباً أسمر البشرة ذا شعر منفوش. في «مدينة الرياح» الصويرة (ولاية مراكش)، شهد هَبّةَ الهيبيين، ولياليهم الحالمة بالحب والسلام في منطقة سيدي كاوكي. التقى بجيمي هاندريكس وسُحر بموسيقاه التي أضيفت إلى شياطين الموسيقى التي تسكنه. انتقل باكو إلى «ناس الغيوان» بعدما كان يغني مع فرقة «جيل جيلالة». لكنّ شراكته مع بوجميع ستكون سريعة جداً، إذ توفي بوجميع في بحر السنة ذاتها. في البداية، غنى باكو إلى جانب «الغيوان» أغنية «غير خودوني» (لتأخذوني) الشهيرة. صرخته الأشهر في تاريخ الموسيقى المغربية في آخر الأغنية تدلّ على نفس عميق، وإيقاع صوتي مذهل سيرسخه في الأذهان، ويربط اسمه إلى الأبد بموسيقى «ناس الغيوان» التي أنارت طريق جيل كان في عزّ الصراع مع السلطة السياسية في البلد.
لم تكن المجموعة مُسيّسة حينها، لكن أغانيها كانت ذات صدى سياسي واجتماعي قويين، وخصوصاً أنّها خرجت من أحد أفقر أحياء الدار البيضاء وأكثرها شعبية (الحي المحمدي) الذي اشتهر بنضاله ضد الاستعمار الفرنسي. سرعان ما سيلتحم المعلم الكناوي معها. بآلة «الهجهوج» وإيقاعات موسيقى الحضرة، سيمدّ الفرقة برافد جديد من روافدها الموسيقية. في «الغيوان»، كانت هناك نبرة صحراوية وأمازيغية وبدوية أضاف إليها باكو لمسة كناوية لا تخطئها الأذن، فاكتمل معه كورال تجتمع فيه الأصوات المغربية.
كان باكو يدهش الجمهور بصرخاته التي طبعت العديد من أغاني المجموعة. في الفيلم الوثائقي «الحال» الذي أعده أحمد المعنوني وألهم مارتن سكورسيزي ليجعل من أغاني «الغيوان» موسيقى فيلمه «الإغواء الأخير للمسيح» (1998)، نرى حضور المعلم باكو. ابتسامته هي ذاتها التي رافقته حتى في أشد لحظات المرض. لكن الشاب الحيّ سرعان ما ينفلت من عقاله حين يستبدّ به وجد الموسيقى.
بعد رحيل العربي باطما، الوجه الآخر الشهير من وجوه الفرقة الموسيقية عام 1997، انفصل باكو عن الفرقة بعد خلافات مع أعضائها. عاد المعلم إلى مدينته وعرعاره، لكنه لم يفارق الموسيقى. أسس فرقته الخاصة التي تولت عزف موسيقى الكناوة التي توارثها لأجيال. لكن في السنوات الأخيرة من حياته، أصيب بمرض عضال. ضيق ذات اليد أدخل الموسيقي في محنة المرض. مَن زاره في السنوات الأخيرة في بيته في الصويرة، يؤكد أنّ الرجل كان يعيش شظف الحياة، لكن بكبرياء مَن ألهم الملايين من أبناء المغرب بمختلف طبقاتهم. وحتى بعد رحيله، ستدخل صرخته وصوته العميق تاريخ الأغنية المغربية إلى الأبد.