د. عبد المجيد زراقط
يتوقَّع قارئ رواية «هرَّة سيكيريدا» (دار الساقي ـ 2014) لرشيد الضعيف، وهو يقرأ عنوانها، أن يقرأ قصَّة هرَّة تتميَّز بصفات تجعلها صالحة لأن تكون شخصيَّة روائيَّة رئيسيَّة، أو الشخصيَّة الرئيسيَّة التي تُعطي الرِّواية عنوانها الدَّال على مضمونها، والموظَّف في تشكيل نظامها.

لكنَّ هذا التوقُّع لا يلبث أن يخيب؛ إذ يتبيَّن قارئ الرِّواية، أن ليس من دور لهذه الهرَّة في تشكيل البناء الرِّوائي، فقصَّتها تُسْتَدعى من خارج أحداث الرِّواية. وتبدو مقحمة، ولا تعدو كونها «طرفة» تُروى عن قطَّة تُرمى خارج البيت ثلاث مرَّات، لكنَّها تواصل العودة إليه.
وإذ تفقد «عتبة الرِّواية»، المتمثِّلة بعنوانها، دلالتها، يُطرح السُّؤال: لم اختار الكاتب هذا العنوان غير الدَّال، وغير المهم في تشكيل بنية الرّواية والنُّطق بدلالتها؟ وهل يريد استخدام عنوان غريب، مثير للاهتمام جاذب للقراءة؟
أيَّاً يكن الأمر، فإن العنوان/العلامة الذي يمكن أن يسهم في تشكيل بنية الرواية وإنتاج دلالتها هو: «رضوان بن سيكيريدا»، فما هي قصَّة رضوان؟

فكرة مسبقة عن طرائق الزواج المؤقَّت، مستقاة من التداول الشعبي ومجالس النميمة


تجيب الرِّواية عن هذا السؤال، مفاد الإجابة هو أنَّ العاملة الأثيوبية «سيكيريدا» التي تعمل في منزل «أديبة» تحمل نتيجة علاقات جنسيَّة غير شرعيَّة، وتنجب ابناً لا يُعرف أبوه، لأنَّها أقامت علاقات جنسيَّة مع عشرين رجلاً، وفاقاً لإحصاء العارفين، ولم يستطع أحد أن يعرف من هو والده بالضَّبط من هؤلاء العشرين.
تعامل «أديبة»، سيدة المنزل وربَّة عمل «سيكيريدا»، الابن غير الشرعي كأنَّه ابنها. وتسمِّيه رضوان. لكنَّ هذا الابن يحتاج إلى أب، فكيف تتدبَّر «أديبة» الأمر؟ ثمَّ تحتاج أديبة، عندما يبلغ رضوان سنَّ البلوغ: الخامسة عشرة من عمره، إلى ما يجعله «مَحْرماً» من محارمها؛ إذ لا يحقُّ لها شرعاً أن تبدو له سافرة، و»سافرة» غير دالَّة على المعنى المقصود، فهي ضد «منقَّبة» و»أديبة» لم تكن منقَّبة. فكيف تتدبَّر الأمر؟ ثم يقيم رضوان، وقد أصبح شاباً علاقة جنسيَّة مع فتاة مشلولة كان يوصلها إلى المدرسة، ويعيدها منها، فتحمل منه. وإذ ترفض إسقاط الجنين يكون من اللاَّزم تدبُّر الأمر، فكيف يتمُّ ذلك؟
يبدو أنَّ القضيَّة المركزيَّة، في هذه الرِّواية، تتمثَّل في العلاقة بين الرَّجل والمرأة، وبخاصَّة العلاقة الجنسيَّة غير الشرعيَّة ونتائجها من حملٍ وإنجاب، والسُّؤال الذي يُطرح هو: كيف تحلُّ المشكلة؟

الحل في النصِّ الرِّوائي

يفيد النَّص الرِّوائي أنَّ الحل تمثَّل، في كلِّ حالةٍ من الحالات الثلاث، في إجراء الزواج المؤقَّت، من طريق التلاعب بتوقيته وشروطه وتزوير وقائعه ووثائقه، ويقوم بذلك شيخ يفتي بجواز ذلك كلِّه، ثمَّ يقوم الشيخ نفسه، وفي الجلسة التي يتمُّ فيها الزواج بإجراء الطلاق. تثار، هنا، مسألة العلاقة بين المرجع الواقعي المعيَّن بالاسم، والمتخيَّل الرِّوائي الذي يصدر عنه، ليجسِّده ويرى إليه.
صحيح أنَّ الرواية ليست تاريخاً، ولا نقلاً للوقائع، لكنها، في الوقت نفسه ليست تزييفاً للحقائق المعروفة في المجتمع المعيَّن بالاسم، كما أنَّها ينبغي أن تصدر عن وقائع ذلك المرجع، وليس عن الطرائف والنَّوادر والأخبار غير الصحيحة التي تروى عنه، وتستقى من التداول الشعبي، ومجالس نميمته، لأنَّها تكون في هذه الحالة نصَّاً يصدر عن نصٍّ، وليست نصَّاً يصدر عن المرجع.
ثمَّ، وعلى المستوى الرِّوائي، الواضح أنَّ ما قامت به «أديبة» غير مقنع روائياً، فهي، كما يقدِّمها الرَّاوي، امرأة صالحة، مؤمنة، تقية، ويقرِّر الرَّاوي أنَّها لا تتخذ قراراً يخالف إيمانها، فكيف تتلاعب بالشَّرع وتزوِّر، ولا تأبه بمستقبل حفيدتها؟ ألا يخالف هذا كله إيمانها!؟ والواضح، أيضاً، أنَّ ما قام به الشيخ، غير مقنع روائياً. فهو كما قدَّمه الرَّاوي، شيخ ورع تقي، فكيف يتلاعب بالشَّرع ويزوِّر الوقائع والوثائق؟ وكيف يسمح لنفسه بأن يجتهد، ويصدر فتوى، استناداً إلى حادثة لا علاقة لها بما قام به من تلاعب وتزوير؟
واللاَّفت الدَّال، على مستوى الصدق الرِّوائي، أنَّ العريس «بو إبراهيم» حضر، كما جاء في الرِّواية، إلى بيت صفية، وتزوَّج سيكيريدا، وطلَّقها من دون أن يراها، وقال لها بالفصحى: «منحتك المدَّة»، فكيف قال لها ذلك، وهو لم يرها!؟
يتَّخذ التلفيق الرِّوائي بنية روائية نتبيَّنها، في قراءة للنَّص، كما يأتي: على مستوى البنية الكليَّة، يلاحظ غياب الحبكة الرِّوائية، فالوقائع تتتالى متراكمة كأنَّها شواهد، والقصص تبدو منفصلة، وليس من مسار روائي تامٍ يتطوَّر بفعل عوامل القصِّ الدَّاخليَّة ليقيم نظاماً للعلاقات محكم الحبك، فيكون مقنعاً، موهماً بصدقيَّة، ناطقاً برؤية جديَّة رصينة إلى قضية من أهم قضايا المجتمع العربي المعاصر. ولا تخلو وقائع هذه الرِّواية من مفاجآت ومصادفات، منها: تنجح أمل ثم ترسب لخطأ في إعلان النتائج يخطف رضوان ويقتل حين تكون الحاجة ملحَّة لوجوده، يقتل «بو إبراهيم» في حادثة لا علاقة لها بمسار أحداث الرواية، يهاجر الأب ويعود ويهاجر ويعود... وتسويغ ذلك غير مقنع، يسقط الشبَّاك ويُقتل العامل من دون أن يهتمَّ أحد بذلك،... ولا تخلو الوقائع كذلك من استدعاء طرائف للاستشهاد بها استشهاداً غير مسوَّغ في الغالب، ومن نماذج ذلك هو حوار أديبة والجندي الإنكليزي في القدس وكان قد قال من قبل إنَّ أديبة «تجهل» الإنكليزية، قول الجارية للخليفة العباسي، ما حدث في «ميتشيغين».
يسوق الراوي العليم الأحداث، ويتحكَّم في تنضيدها، فيختار وقائع من الماضي، ويسردها ملخَّصة. ما يفقد السَّرد مساره النَّامي بفعل عوامله الدَّاخلية، فنقرأ، على سبيل المثال: «منذ أيام...»، «مرَّة قصدت...»، «مرَّة هددت...»، «أوَّل حادثة»، «عادت سيكيريدا مرَّة...»، «ومرَّة بعد أيام»...»، «نرفزت أديبة منها مرَّةً...». يبدو هذا الرَّاوي عليماً بكلِّ شيء، فيعرف ما تدركه الشخصيَّة وما لا تدركه، ويعلم أنَّ «دفاعها كان مبرمجاً منذ تكوِّنها في بطن أمِّها على ألاَّ تخبره»، ويفسِّر، ويطيل التفسير ليقنع، ويكون تفسيره، في كثير من الحالات غير مطابق لصفات الشخصية التي يكون قد حدَّدها، ومن نماذج ذلك قوله لدى أدائه تداعيات رضوان: «...كلمة من المعاني ما لا تحويه كتب وقواميس ومجلَّدات. كانت دائرة معارف...»، فعلاوة على المبالغة الخطابية، يسأل القارئ: من أين لفتى لم يكمل تعليمه الابتدائي أن يعرف القواميس ودوائر المعارف وما تحويه!؟ وهكذا نلحظ أنَّ الرَّاوي مهيمن، فلا يترك لشخصيَّته أن تؤدي تداعياتها، وينسى ما يؤدِّيه، وما يصف به الشخصيَّة، فينسب لها مواقف لا تطابق صفاتها كما ذكرها هو.
يؤدِّي هذا الرَّاوي المتحكِّم بكلِّ شيء في هذه الرِّواية، الحوار في الغالب، فلا يتيح للشخصيَّة أن تقول، فيكون الحوار، في حالات كثيرة، خطاباً غير مباشر، ومن نماذج ذلك الحوار الذي دار في منزل «أديبة» بعد كشف حمل «سيكيريدا»، إذ يصوغه الرَّاوي خطاباً ملخَّصاً غير مباشر، وفي حالاتٍ كثيرة يؤدِّيه بالفصحى، ثمَّ بالعاميَّة، كأنَّه يترجم من مستوى لغوي إلى مستوى لغوي آخر. ويؤدي تداعيات الشخصيَّة فتكون كذلك خطاباً غير مباشر، ومن نماذج ذلك ما يورده من تداعيات تدور في داخل أديبة: «تعرف أديبة ما معنى أن تكون البنت فقيرة وعاملة بين رجال...»، وينتهي إلى تقرير خلاصة التداعيات فيختصرها، ويصدر حكماً، فبعد أن يورد تداعيات أديبة، على سبيل المثال، يقول: «خلاصة هذه التداعيات، في أفكارها وذكرياتها...، فيبدو كأنَّه يبحث في مسألة من المسائل، فيقدم التداعيات شاهداً، ويخلص منه إلى تقرير الخلاصة وإصدار الحكم، ومن نماذج ذلك نراه يعرض، فينتهي من العرض إلى القول: «وفي المحصِّلة الأخيرة»، و»مفاد هذه المسألة».
واللاَّفت أنَّه يستخدم، كما في الأبحاث، في مواضيع كثيرة، عباراتٍ يضعها بين قوسين، ليعلِّق، أو يفسِّر، أو يوضِّح، أو يسترجع.
تذكِّر هذه الصِّفات، التي أشرنا إليها، بالرواية العربيَّة في بدايات نشأتها، عندما كان الرَّاوي العليم يتحكَّم، ويلفِّق القصص والخطاب ليقدِّم معرفةً ما، أو أفكاراً ما. ما يميِّز بين تلك الرِّوايات وهذه الرِّواية هو أنَّ الرَّاوي، في هذه الأخيرة، يقدم معرفة مستقاة من التداول الشعبي وطرائفه، ومن منظور روائي هادف إلى توظيفٍ فكرة مسبقة. ويستسهل القص فيقع في أخطاء كثيرة أشرنا إلى نماذج منها في ما سبق، ونشير إلى نماذج أخرى في ما يأتي. من الأخطاء اللغوية في النحو نذكر: «وبالحماسة والدهشة ذاتها» (ص. 39)، «في سن الخامسة عشر»، و»بدون...» (ص. 71) وهذه نماذجها كثيرة جداً، «عن أيامها وسنينها جميعاً» (ص. 75)، «كادت أمل تقف على رجليها من الحماس» (ص. 140)، «رضوان ابن الصدفة» (ص. 8)، «لم يكن مضى على معاتبته لها أسبوعاً» (ص. 92)،...
ومن أخطاء التعبير/تركيب الجملة: «وجدت نفسها على قرار» (ص. 24)، «من أين أتت بهذه الهرَّة وعمَّا تريد أن تفعل بها» (ص. 39)، «لم تحاول أن تسلم مخدومتها سيكيريدا ولا أن تحجِّبها» (ص. 49)، «لأنها أسهمت بخطورة ما حصل» (ص. 53)،...
وإذ يستخدم العامية يخطئ في التعبير أيضاً، كما في قوله: «بزعل منَّك، وما بعيد أحكي معك» (ص. 60). وأخطاء في الأسماء التاريخيَّة فيذكر «عقيل بن مسلم»، والمقصود «مسلم بن عقيل» (ص. 72)،
وأخطاء في السرد، ومن نماذجها نذكر: «استقدمت أديبة إذن أم رضوان...» (ص. 86) وسياق السرد يفيد أنَّ المقصودة هي أم حسان، ويذكر أنَّ «عقد التحريم» أجرته «أديبة»، وهو لم يجرِ بعد (ص. 81)، ويذكر أنَّها تنتظره ليجد لها الحل، ثمَّ يذكر أنَّها اتفقت معه من قبل على حل (ص. 78)، ويقول مرَّة إنَّ «سوسا» فيليبينية (ص. 33)، ومرَّة أخرى إنَّها حبشيَّة سوداء» (ص. 34)...
هذه نماذج من الأخطاء، ولعلَّها وليدة استسهال الكتابة وسرعتها، ويبدو هذا الاستسهال مشكلة كبرى عندما يقدِّم حلاً غريباً لا علاقة له بالواقع كما ذكرنا آنفاً، لمشكلة اجتماعيَّة خطيرة. حاولنا تقديم نماذج تدلُّ على ما تتَّصف به بنية هذه الرِّواية ورؤيتها من تلفيق قصصي أملته فكرة مسبقة عن طرائق الزواج المؤقَّت، مستقاة من التداول الشعبي ومجالس النميمة، وأُريد لهذا التلفيق الذي استُسهلت كتابته أن ينطق بهذه الفكرة. وإن تكن القضيَّة المركزيَّة شديدة التعقيد، فإنَّ الرؤية المزيِّفة للواقع أضاعت فرصة كشف الواقع وتجسيده في كشف روائي يجسِّده ويرى إليه.

* أكاديمي وباحث لبناني
يستضيفه «المجلس الثقافي للبنان الجنوبي» في ندوة عن كتابه «المؤلفات القصصية» عند السادسة من مساء الخميس 19 تشرين الثاني (نوفمبر).