يملأ قيس سلمان (1976) لوحاته بكائنات نسائية دميمة. نسمّيها كائنات لأنها نُسخ أنثوية منجزة من خلال تشويه الحضور الطبيعي للمرأة، وتدمير الانطباعات البديهية التي تولدها لدى المتلقي. أحياناً، تحتل امرأة بقياسات كبيرة مساحة اللوحة، وأحياناً أخرى تكون أصغر وتستدعي مجموعة من شبيهاتها الصغيرات إلى لوحات أخرى. أحياناً تكون الوجوه والأجسام مصفوفة على سطر واحد، وأحياناً أخرى على سطور عدة.
في كل الأحوال، هناك نوع من التنكيل بالوجوه والأطراف والعيون. تنكيل يصل إلى حدود التمثيل بالتشريح البيولوجي للجسد، ونبش أحشائه السيكولوجية، وعرض أفكار هذا الجسد وأسراره على الجمهور. كأن الرسام السوري الشاب يطالبنا بوضع الجمال السطحي جانباً، ويدعونا إلى جولة في الجانب المعتم لهذا الجمال. كأنه يقول إن الحضور البشري المرئي هو طبقة مخادعة تُخفي شرورنا وأوساخنا وأعطابنا. إظهار الباطن ممارسةٌ لا تسري فقط على عنوان معرضه Inner – Self (الذات الداخلية) في «غاليري أيام»، بل هي تقنية وأسلوب ومزاج، حيث الرسم مدينٌ لأفكار وخلاصات فلسفية ذاتية أكثر من كونه خطوطاً وألواناً فقط.
لا يصدمنا سلمان بإظهار البشاعة بقدر ما يسعى إلى تجاوز الانطباع الأول إلى ربط الرسم بمسائل مجتمعية معاصرة. لكن الخشية لا تزال قائمة من تحوّل هذا النوع من الرسم إلى ماركة تجارية، أو بضاعة مفضلة لدى الغاليريات الكبيرة وزبائنها الجدد.
يضم المعرض 13 لوحة يتم فيها استثمار حضور المرأة بأشكال متعددة. القامات مقزّمة غالباً، أو متخلية عن الأطراف، أو مضخّمة الرؤوس على حساب باقي الجسم. في بعض الأعمال، نرى إضافات خارجية على شكل مسدس مثبت على الخصر، أو رأس دمية مخيطة بدرزات بدائية خشنة، أو تعويذة الكف والعين الزرقاء، أو ثياباً داخلية «تُفسد» المزاج العام لنساء اللوحة. في عمل آخر، نميز «فينوس» معاصرة مبتورة الذراعين، لكن بملامح ممسوخة.
ظهور النساء كمسوخ هو جزء أساسي من طموحات الرسام، لكن هذا لا يجعلهن كائنات مؤلفة من التشوّه الصافي، بل يبدو أن قبحهن جعلهن ضحايا هذا التشوّه. كأن العناية الفائقة بالقبح تنقلب أحياناً إلى الضد، وتفسح المجال لرؤية هذه الكائنات كمسوخٍ مجروحة، ووديعة، وسريعة العطب أيضاً. ملاحظةٌ كهذه، تصنع علاقة شبه طبيعية للجمهور مع ما يراه. هكذا، تصبح الدمامة قريبة ومحببة وعادية. صحيح أنها محكومة بأفكار كبرى تنتقد الآثار السلبية للعولمة، وثقافة الموضة القائمة على الاستلاب وتخريب الهويات والجماليات التقليدية، إلا أن الأعمال نفسها تنضوي في سياق فني معولم في اللحظة التي ينتقد صاحبها العولمة. لقد سبق لقيس سلمان أن عرض أعمالاً مستوحاة من عروض الأزياء المعاصرة، ورأى من خلالها أن «المرأة هي الأكثر تأثراً بمعايير الجمال السوقي الخاضع لذبذبات الموضة». نساء معرضه الحالي هنّ طبعات منقحة ومزيدة عن نساء معارضه السابقة، مع حِدَّة تعبيرية أكبر ممزوجة بوحشية لونية يطغى عليها الأسود والرمادي.
هكذا، يصبح نقد «الجمال السوقي» جزءاً من الترويج للقبح والتشوه في اللوحة، بينما تحظى اللوحات المعروضة بحس تسويقي مماثل. الخشية الأكبر أن يكون هذا الحس موجوداً في مبدأ عملية الرسم، وأن يتقنّع بوهم الانتماء إلى مزاج تشكيلي حديث أو ما بعد حديث، حيث تشتغل اللوحة في خدمة السوق، وتنصاع لشروطه التجارية ومزاداته الكبرى، ويقبل عليها المقتنون الجدد، وتتحول ممارسات القبح إلى نوع جديد ومُمتدَح من الـ «كاندي آرت».

* Inner – Self حتى 30 ت1 (أكتوبر) ـــ «غاليري أيام»، بيروت ــ
للاستعلام: 01/374450 ــ
http://www.ayyamgallery.com



عن الهوية و«جنة» السوق

لم يتأخر قيس سلمان في الاستجابة لهواجس وطموحات أغلب أقرانه الشباب الذين باتوا على اتصال مباشر بما يحدث في سوق الفن. الهوية الفنية أو الانتماء إلى المحترف السوري صار مسألة هامشية مقارنةً بانفتاحهم على التجارب المعاصرة في العالم. أنهى سلمان دراسته في كلية الفنون في دمشق سنة 2002. وخلال عقد واحد، واظب على خلق منعطفات حادة في مزاجه التشكيلي، وحصل على جوائز وحفاوة نقدية وإعلامية، وتصدرت إحدى لوحاته غلاف مجلة Wall Street Journal. التجريب ممارسة صحية طبعاً، لكن تفشيّه بين رسامي الجيل الجديد في سوريا يطرح أسئلة ضرورية حول الهوية التي يبدو أن التخلي عنها بات شرطاً للانتماء هؤلاء إلى «جنة» فنون ما بعد الحداثة، وإلى أسواقها الاستهلاكية.