في الخامس من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، رحل عن دنيانا بيار شولي، أحدُ مناضلي الجزائر من أجل استقلالها، وأحدُ رموز كفاح الشعوب من أجل التحرر، ممّن فضلوا ــ عكسَ ألبير كامو ـ العدالة على «طائفتهم» وأزاحوا عن أعينهم غشاوة الإيديولوجية الاستعمارية التي كانت تبرر الاحتلالَ ليَروا - ويُرُوا العالم - حقيقتَه البشعة.
ولد بيار شولي في عام 1930 وسط أسرة شاركت الأسرَ الأوروبية التي استوطنت الجزائرَ بعد احتلالها عام 1830 تعدُّدَ أصولها القومية، وتميّزت عن معظمها بالتزامها السياسي، من خلال نشاط متّصل في مختلف منظمات «التيار الكاثوليكي الاجتماعي» من كشّافة وجمعيّات شبابية ونقابات عمالية.
يعود الفضلُ إلى هذا المنشأ في وعي بيار شولي واقعَ من كانت الإدارةُ الاستعمارية تسمّيهم «الأنديجان»، أي الجزائريين غير الأوروبيين، والهاويةَ السحيقة من التمييز العنصري والديني والاجتماعي واللغوي التي كانت تمنعُهم من أن يكونوا إخوتَه ومواطنيه. تعمّق وعيُه وهو طالبٌ في كلية الطب من خلال تواصله بمناضلي القضية الوطنية على اختلاف مشاربهم (من المدافعين عن مطلب الاستقلال التام إلى الداعين إلى «المساواة في إطار الدولة الفرنسية»). في خضمّ الحراك السياسي والتنظيمي الذي ميز سنتي 1954 و1954 إثر انشقاق التيار الاستقلالي، ما لبث أن تحوّل اقتناع شولي بلاإنسانية الوضع الكولونيالي إلى التزام راديكالي، جسّده التحاقُه بجبهة التحرير الوطني في 21 تشرين الثاني (نوفمبر) 1954، أي بعد ثلاثة أسابيع من اندلاع الثورة. كان هذا الالتزامُ (وما أكثر مخاطرَه إذا تذكرنا أنّ «الجبهة» لم تكن آنذاك سوى «نواة جبهة») هو ذاتَه، وفي الوقت عينه، التزامَ زوجته كلودين غِيُو - شولي المولودة في فرنسا في أسرة جمهورية استقرّت في الجزائر سنة 1946.
من 1954 إلى 1956، نشط بيار شولي في الخلايا السرية لجبهة التحرير في الجزائر، وكُلِف هو وكلودين شولي مهمات صعبة منها إخفاء وتهريب قادة الثورة وترتيب اتّصالاتهم مع الشخصيات الأوروبية التقدمية (ومنها بعض زعماء الكنيسة الجزائرية) بهدف كسب تأييدهم لمطلب الاستقلال، وقد جرى اعتقالُه ثم أطلق سراحُه فاستأنف نضالَه السريّ والعلني محاصَراً بمضايقات البوليس وتهديداته إلى أن أمرت الإدارة الاستعمارية بإبعاده إلى فرنسا.
ومن فرنسا، سافر شولي مع زوجته إلى الجمهورية التونسية المستقلة حديثاً، والتحق بأسرة تحرير جريدة «المجاهد» الناطقة باسم المقاومة، حيث عمِل إلى جانب كل من عَبّان رمضان، «عقل الثورة المدبّر»، و«جزائري المارتينيك» فرانز فانون، وقام هو وكلودين بمهمّات كثيرة كلفتهُما بها الحكومةُ الجزائرية المؤقتة في تونس وخارجها.
وبعد الاستقلال في تموز (يوليو) 1962، عاد بيار وكلودين شولي إلى موطنهما واختارا الجنسية الجزائرية، ولم تُعدم الجزائرُ الفتيّة فيهما شخصين متفانيين في أداء ما كان يسمى في لغة تلك الحقبة «مهمات التشييد الوطني»: عمِل هو بروفيسوراً وممارسَ طبّ، فكان أحد مهندسي منظومة الصحة العامة، فيما اشتغلت هي، حتىّ تقاعدِها، عالمة اجتماع مختصة في دراسة الوسط الريفي في العديد من المراكز البحثية وفي جامعة الجزائر.
ومن 1962 حتى وفاته منذ أيام، عاش بيار شولي أفراحَ بلده وأحزانها. سعِد بسنواتها الباسمة المتفائلة، سنوات «الصحة المجانية»، و«تعميم التعليم»، و«تأميم البترول» و«الثورة الزراعية» وعاصر «العشريةَ السوداء» تحت حكم الرئيس الشاذلي وتفريطَها في مكاسب الاستقلال باسم «النجاعة الاقتصادية»، واكتوى بنار التسعينيات الدامية التي أجبرته، هو وزوجته، على الرحيل إلى المنفى من 1994 إلى 1999، وأمضى السنوات الـ 13 الأخيرة من حياته، وهي «السنوات البوتفليقية» من دون أن يفقد الأملَ في رؤية بلده يغادر نفق مآسيه المتجدّدة إلى فضاء النور.
ستذكر الجزائرُ دائماً في بيار شولي رجلاً فضّل الانتماءَ الكوني إلى معسكر الحرية على الانغلاق الشوفيني، وضرب مثلاً نادراً للأخوة الإنسانية بمشاركته في إحدى أشرس حروب التحرير في التاريخ، لتخلُد ذكراه، ولتكون نبراساً ينير الطريق لكل إخوانه البشر، في الجزائر وغير الجزائر.



صوتان وذاكرة


في عام 2012، نشر بيار وكلودين شولي مذكراتِهما «خيار الجزائر: صوتان وذاكرة» (دار البرزخ)، ومكّنتهما الندوات التي تلت نشرَه من التواصل مع جزائريين كثيرين، كان يجهل معظمهم مساهمتَهما (ومساهمةَ غيرهما من «أوروبيي الجزائر») في نيل الاستقلال. خوفهما من اندثار هذا الجانب من تاريخ الثورة دفعَهُما إلى إصدار الكتاب، راجييْن «أن يجد فيه الشبان والشابات الجزائريون (...) عناصرَ ماض لا يعرفونه جيداً (...)، وأن يكوِّنوا عن بلدهم صورةَ حداثة وانفتاح، هي صورةُ الرجال والنساء الذين ألقوا بأنفسهم في غمار الكفاح التحرّري».