في كتابه «هل يرحل المسيحيّون العرب؟ مجمل الماضي والحاضر والأداء المأمول» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر ـــ 2012)، يحاول وهيب عبده الشاعر تسليط الضوء على الواقع التاريخي والمعاصر للمسيحية المشرقية، ويسعى إلى تبيان أبرز التحولات التي عرفها المسيحيون العرب، وخصوصاً لجهة المتغير الديموغرافي. ورغم أنّ عنوان الكتاب يبدو شديد الجاذبية في الوقت الذي تطرح فيه أسئلة كثيرة عن مصير المسيحيين في العالم العربي وسط ضجيج الانتفاضات وتداعياتها، إلاّ أن الكاتب الأردني يقع أحياناً كثيرة في خلط منهجي، سواء في تقسيم الفصول أو لجهة خروج الإشكالية الأم من بين يديه.
وكان من المفترض أن يحدد بشكل أدق معالم الأفكار، عبر موضعة دراسته في قالب علمي، كأن يتطرق أولاً إلى المعطى التاريخي لأحوال المسيحيين وتحولاته الراهنة، ثقافياً وسياسياً، لكنه اكتفى في تقديم مادة أقرب إلى التقرير الصحافي الوصفي منه إلى الدراسة العلمية، نظراً إلى أهمية الموضوع الذي عالجه أولاً ونظراً إلى القلق الذي تشعر به غالبية الأقليات الدينية والإثنية قبل الربيع العربي وبعده ثانياً.
يعمل صاحب «واقع الاقتصاد الأردني وآفاقه؛ الإطار السياسي والاجتماعي» على رسم خريطة زمنية للمسيحيين العرب، ويلاحق أهم المحطات التي مرّوا بها، ولو تسرّع أحياناً في مفاصل مختلفة. في البداية، يدرس الخلفية التاريخية للمسيحية المشرقية وانتشارها في المشرق العربي، ويركز على الواقع الديموغرافي، مع تكرار المعلومات في مواضع متعددة، ومن ثم ينتقل إلى العقيدة المسيحية وأدوار المسيحيين قبل الإسلام وبعده، محاولاً الكشف عن مكوّنات هويتهم العربية.
يخرج الكاتب أحياناً بخلاصات تبدو إلى حد ما تبسيطية لا ترتبط مباشرة في الموضوع الذي يدرسه. على سبيل المثال، حين يجعل عنوان الكتاب «هل يرحل المسيحيون العرب؟»، فإنّه لا يركز بدقة على الإشكالية المطروحة، فينتقل فجأة من العامل التاريخي إلى الواقع الراهن، ما أدى إلى خلط منهجي يمكن البرهنة عليه في أماكن متعددة، وهذا لا يمنع أنه أمسك بخيوط مجمل المعضلات التي يعانيها المسيحيون في مصر وسوريا ولبنان والعراق ودول أخرى.
يرى الكاتب أن التراجع الديموغرافي للمسيحيين المشرقيين زمن الخلافات الإسلامية لا يرتبط بالأبعاد الدينية، ولو شهدت بعض الحلقات التاريخية اضطهاداً نسبياً تحديداً أيام المماليك، وهو على حق في ذلك. ويخرج بنتيجة أولية مفادها أنّ المسيحيين عاشوا ازدهاراً خلال مرحلة الخلافة العثمانية، إلاّ أنه لا يؤسس على هذه الخلاصة، ويكتفي ببعض الإشارات والتلميحات، وكان من المهم أن يعود إلى المصادر والمراجع التي كتبت في هذا الموضوع الشائك بدل الاكتفاء بالعرض السريع.
لا يلاحق صاحب «الأردن إلى أين؟» الفرضيات التي انطلق منها. في مقدمة كتابه، يؤكد اهتمامَه في تتبع الدور الإيجابي للمسيحيين المشرقيين في الدولة والمجتمعات العربية في أزمنة مختلفة، وخصوصاً في العلوم والمهن والفلسفة والتواصل مع الإغريق، وكذلك دورهم في العصر الحديث المؤسس للنهضة العربية. فماذا فعل؟ لا يتحقق الكاتب من هذه النقطة رغم أن كثيرين كتبوا عنها، وكان بإمكانه البناء على البعد النهضوي لشرح عوامل انسحاب المسيحيين منه، باعتبارهم مكوّناً أساسياً للحضارة العربية والإسلامية.
وإلى جانب الفرضيات التي تقدم بها، يعرض الشاعر مجموعة من الإشكاليات متسائلاً: لماذا تتحول أوروبا الآن إلى الإسلام؟ وما مصير التنافس بين انتشار الإسلام وانتشار المسيحية في أفريقيا؟ ورغم أهمية السؤالين، لكننا لا نجد لهما علاقة مباشرة مع موضوع بحثه، وخصوصاً أنه يدرس واقع المسيحيين المشرقيين عبر التاريخ والديموغرافيا، وهذا لا ينفي أحقية التساؤل والتحقق منه في بحث آخر، وبمقدور الكاتب العودة إلى أطروحة أوليفييه روا «الجهل المقدس زمن دين بلا ثقافة».
يحدد الكاتب المسببات المؤدية إلى اضمحلال أعداد المسيحيين العرب في مصر وفلسطين والعراق وسوريا ولبنان عبر مسارها التاريخي الطويل، وقد اعتمد على أرقام وإحصاءات معروفة نسبياً، لكنه لا يحدد المصادر التي استقى منها معلوماته. وبصرف النظر عن المعطى الديموغرافي، لا يجيب الشاعر عن الإشكالية الأساسية «هل يرحل المسيحيون العرب؟»؛ فقد ارتأى إزاحة الستار عن الأبعاد التاريخية وتطور علاقة المسيحيين مع مجالهم العربي والإسلامي، وحتى هذه القضية لم يدرسها بما فيه الكفاية، ما جعل كتابه أقرب إلى التقرير منه إلى البحث الرصين.
وفي تحديده لأسباب التراجع الملحوظ للمسيحيين المشرقيين على المستوى الديموغرافي، يربط الكاتب بين هذا التراجع والمعطيات السياسية والاقتصادية والثقافية، وهو إلى حدٍّ ما أصاب في خلاصته، ويسلط كذلك الضوء على دور الإحيائية الإسلامية في زيادة معدلات الهجرة لديهم، وهذا المفصل يتطرق إليها سريعاً. يشير الشاعر إلى أن عملية التأميم التي أُجريت في الخمسينيات والستينيات أحبطت المسيحيين لأنهم من الطبقة المتوسطة والثرية مقارنة بالطبقات الواسعة العدد من المسلمين، ويعرج على العامل الصهيوني الذي أسهم هو أيضاً في هجرتهم، وخصوصاً في فلسطين بعدما وصل عددهم وفقاً لبعض الإحصاءات غير الرسمية إلى نحو 2 في المئة من مجموع عدد السكان.
في الفصل الأخير، يعرض الكاتب اعتلالات الأمة العربية وعيوبها لجهة العلاقة الثنائية بين الغرب والعالم العربي وبين الأنظمة العربية والمجتمع والدول. ورغم أهمية المسائل التي أثارها، لكنه لا يفكك هذه الاعتلالات، وخصوصاً أن الأنظمة أسست لفجوات بنيوية مع غالبية الجماعات الدينية. ولا نعلم لماذا أضاف هذا الفصل إلى الكتاب، ما دام لم يموضع القضايا المطروحة فيه انطلاقاً من القضية الأساسية التي عالجها، أي مواقع المسيحيين وأدوارهم ومستقبلهم.
ثمة إشكاليات مهمة لم يلتفت اليها الكاتب: أي دور نهضوي للمسيحيين العرب في أزمنة التحولات الانتقالية التي تشهدها دول الربيع العربي؟ وما هو المطلوب منهم الآن في ظل اشتداد الصراعات المذهبية؟ وكيف تنعكس أزمة بناء الدولة على مجمل الفئات الاجتماعية؟ ولماذا ينسحب المسيحيون من أدوارهم النهضوية كشركاء للمسلمين في الهوية واللغة والمشترك الثقافي والمجتمعي؟ لقد رصد الشاعر تداعيات الهجرة، بالعودة المقتضبة إلى الماضي والإطلالة السريعة على الحاضر، وحتى هاتين النقطتين تطرق إليهما بإيجاز شديد.