لم يتغير نزيه أبو عفش (1946). الشاعر الذي كتب «كم من البلاد أيتها الحرية»، لاحت له «نسخة» غير التي حلم بها. وحين حاول أن يُشهر خوفه منها، انهالت عليه الشتائم واتهامات التخوين حتى من الذين امتدحوا عزلته ويأسه ورؤياه الكارثية للحياة. لم يكن «الربيع العربي» قد وصل إلى سوريا حين بدأ بكتابة يوميات لا تبتعد كثيراً عن مناخات قصائده، لكنها تتخفف من متطلبات الكثافة والاقتضاب.
هكذا، كتب «أنت الذي تزعم أنك قادمٌ لنجدتي/ ليتكَ تعرف كم أنا خائفٌ منك»، وحين بدأت طلائعه بالوصول، رأى أن «العبيد الذين يستقوون بعدوٍّ على سيّدهم أو طاغيتهم لن يكونوا أحراراً، بل يتحولون من عبدٍ مقتول إلى عبدٍ قاتل». لكن، بدل أن يجد الشاعر من يسمعه، أو على الأقل يحتمل رأيه المختلف، وجد نفسه في «قوائم العار». مع ازدياد القتل والدمار، وانعدام أي فرصة للحوار أو الحل، انزوى صاحب «أهل التابوت» عن المشهد، مواظباً على كتابة يومياته التي ملأ بها مئات الصفحات حتى اليوم.
في بيروت التي قرأ فيها بعضاً من يومياته المبكّرة قبل سنة ونصف السنة، التقيناه مجدداً، لكن يائساً أكثر وحزيناً أكثر. يبادرنا هو إلى القول بأنه «فاقد الحماس لأيّ شيء». يصمت قليلاً، ويضيف: «القتل في ازدياد، الكوابيس في ازدياد، وحيثما تلتفت هناك فقدان صواب. المطلوب أن تكون مجنداً مع طرفٍ ضد طرف آخر، بينما أنا في الظروف المعافاة لم أستطع أن أكون جندياً، فما بالك حين تكون جميع الأطراف مثيرة للرعب؟». ينتقد أبو عفش ادعاء الجميع امتلاك الحقيقة، ويستغرب كلامهم باسم الشعب السوري، ويتساءل عن مصير الناس العاديين الذين لا يملكون سوى الحياة البسيطة التي «يقتتل عليها الجميع». بالنسبة إليه، هناك ملايين الخائفين الذين قُتل منهم أعداد أكثر من الأطراف المتحاربة. الشاعر الذي يقف على حدة في خارطة الشعر السوري والعربي يرى أن النجاة لم تعد ممكنة، وأن سوريا ذاهبة إلى كارثة، بينما «الأمل الوحيد الذي كان ممكناً هو الحوار الذي رفضه المعارضون منذ البداية». كأن الشاعر الذي برع في إدهاشنا باستعاراته السوداوية استقر أخيراً «بين هلاكين» عنوان مجموعته التي ظن أنها مجرد التقاطة شعرية فردية. الواقع أن أبو عفش كتب كل تجربته بمزاج الشخص الهالك والقليل الحيلة، بل إن قرّاءه ونقاده امتدحوا قوة قصيدته الممنوحة بطولتها لكائن صغير ويائس وخائف. لم يُخفِ أبو عفش يوماً موقفه من القمع والقبح وغياب العدالة. تساوى الشاعر مع بطل قصائده، وتحوّل العذاب البشري إلى فن شعري وشخصي. في بدايات الحراك الشعبي، أبدى الشاعر فرحاً مشوباً بالقلق. لم يبالغ في الأمل. تمنى أن تنجو سوريا من النسخة الليبية، وأن تحدث إصلاحات حقيقية، لكن سرعان ما تحول الصراع داخل سوريا إلى صراعٍ عليها، وصدقت خشيته من أن «الديمقراطية في نظر البعض هي حقهم في أن يكونوا طغاة المستقبل». بمفعول رجعي، يتأمل صاحب «تعالوا نعرّف هذا اليأس» المشهد الراهن. «الثورة المصرية ما كانت ستقلع لولا أنها قدّمت ضمانات مؤكدة بأنها ستكون نسخة أسوأ من نظام مبارك»، أما بالنسبة لسوريا، فالجميع يدفعون إلى الخراب لأن «العائدات ستكون أكبر كلما كان الخراب أكبر». يقول مضيفاً «إن كل نزاع مسدود الأفق مصيره التفاوض، لكن الأخير لن يقدّم للسوريين إلا بعد وصولهم إلى درجة الصفر».
ما فعله أبو عفش في شعره، يفعله في يومياته التي سيقرأ منها مساء اليوم في بيروت، لكن بجرعات أكبر من اليأس والخوف. «إنها خلاصة كوابيسي التي لن يُنصت إليها أحد». قبل ذلك، ظن الشاعر أن الحوار ممكن مع أقرانه المثقفين والشعراء على الأقل. تحدث بصراحة في مقابلة نشرت في جريدة «السفير»، لكن الردود التي كتبت عن المقابلة أثارت الذعر في نفسه. اليوم يسخر مما قاله: «ما قلته يومها أراه مسخرة الآن. كنت متوهماً أن لدي وجهة نظر. لقد عذرت البعض لأنه لم يخوّنّي ولم يشك في استقامتي على الأقل، لكني لم أجرؤ على إكمال قراءة ردود أخرى بسبب لغتها المروّعة».
راهن صاحب العزلة والخوف المزمن على رصيده الشعري والإنساني، فكافأه الآخرون بمعادلة «إن لم تكن معنا فأنت ضدنا»، وبات قوله القديم للعدوّ: «نتشابه في كل شيء/ ولكن سامحني/ تحت قميصيَ قلب/ وتحت قميصكَ مسدس»، صالحاً لمن يُفترض أنه كان في صفوفهم أيضاً. هكذا، صارت كتابة اليوميات التي سماها «ربيع المآتم» ملاذه الوحيد. يوميات أشبه بمراثي «إرميا» لخراب مدينته التوراتية، حيث يتذكر الشاعر «كم كانت الحياة في الماضي/ صالحةً للحياة»، ويشرفُ على ربيع بلاده المزيف، ويكتب: «يا إلهي/ خلف جنازة مَنْ/ يهرولُ هذا الربيع كلُّه؟».

7:30 مساء اليوم ــ «نادي الساحة» (مبنى «حركة الشعب»، بيروت)



الشاعر غلطة

إذا كانت الأرض _ على عادة أي أرض _ لا تتسع لأكثر من ثلاثة/ اجتمع الكاهن والشاعر والمؤرخ وقائد الجيش/ الكاهن بإجماع الشعب/ يلزمُ للعمادات والأعراس والمآتم/ وتسهيل عبور أرواح السفاحين إلى ديار الأبدية/ المؤرّخ لتلطيف مذاق الكوارث، وتبييض آثام البرابرة/ وقائد الجيش، كما لا يخفى على أحد، لترويج صناعة الأوسمة/ وتشييد أقواس النصر/ وتحويل ذكرى المذابح/ إلى أعيادٍ وطنية/ وطبعاً، أُقصي الشاعر/ الكلّ يعرف/ حين يكون المجد هو الديانة/ ما ضرورة الشعراء/ ونعيق حناجرهم المنفوخة بالدموع/ والغصات ودخان الأحلام الخائبة/ فعلاً/ في أعراس الآلهة وأبناء الآلهة/ ما ضرورة غرابٍ إضافي/ ما ضرورة الألم؟/ نعم: الشاعرُ غلطة».

29/ 8 / 2012
من يوميات الشاعر التي ستنشرها «الأخبار» قريباً