صنع «مترو المدينة» سمعته في وقت قياسي. الصالة الصغيرة والحميمة أسفل «مسرح المدينة» في شارع الحمرا، باتت فضاءً لهوامش المدينة ومزاجها الليلي من خلال برمجة يومية تخلط يوميات السهر العادي مع فنون الكباريه، وتنتهي بعروض نهاية الأسبوع التي يتعمّد أصحابها إبداء ضجرهم من المسارح التقليدية عبر اسكتشات ومونولوجات خطابية تتناول قضايا الشارع السياسية والاجتماعية، ويتخفف فيها الأداء المسرحي لصالح السخرية و«الزناخة» والانتقادات اللاذعة. المزاج المسرحي المختلف استدعى ممارسات مزاجية أخرى، فحضرت عروض موسيقية وغنائية تنتمي إلى الهوامش ذاتها. كأنّ «المترو» تساوى مع اسمه، فاحتفى بتجارب الـ«أندرغراوند»، وأفسح المجال للفنون البديلة والتجارب غير المعروفة، داعياً جمهوره إلى النزول تحت السطح الذي تتحرك فيه الثقافة اليومية الرسمية والمكرسة.
داخل هذا المزاج، لا نتوقع أمسية شعرية تقليدية في سهرة الليلة. عنوان الأمسية نفسها «شعر مش مطبوع» يلعب على فكرة أنه شعرٌ لم يصبح رسمياً بعد، أو ليس في نية الشعراء والشاعرات الذين يكتبونه أن ينالوا التكريس التقليدي، أو لعله «أقلّ» من أن يصبح رسمياً ومكرساً. هكذا، ينضم «مترو المدينة» إلى قائمة الحانات والمقاهي البيروتية التي سبق لها أن برمجت «الشعر» ضمن سهراتها الأسبوعية. البداية كانت ارتجالية في «شي أندريه»، ثم انتقلت إلى «جدل بيزنطي» و«دينامو» و«شبابيك» و«زوايا». بطريقة ما، استهلك الشعر نفسه في تلك السهرات التي امتزجت فيها القراءات الهامسة مع رفع الأنخاب الكحولية الصاخبة. احتفت الصحافة الثقافية بحضور الشعر في الحانات على أنه فائض حضوره المزدهر في الحياة الثقافية، بينما جرى تجاهل فكرة أن الحال ضاقت بالشعر، فلجأ كتّابه إلى الحانات التي سرعان ما أُتخمت بقراءاتٍ تحولت إلى واجب روتيني. تدارك المنظمون في «زوايا» جزءاً من هذا الروتين باستثمار الفضاء الافتراضي من خلال «قراءات شعرية فايسبوكية»، إلا أن القراءات نفسها ظلت حبيسة فكرة الأمسية التقليدية.
هل يَعدنا «مترو المدينة» بإدراج الشعر داخل مزاجه الذي عرفناه في العروض المسرحية والموسيقية؟ هل يمكن اللعب بالرصانة الأزلية للشعر؟ وهل تحتمل القصيدة مناخات التهكم والاستعراض؟ أسئلة لن نتسرع في توقع إجاباتها، لكن الأسماء المشاركة في السهرة توحي بـ«مفاجأة» ما، أو لنقلْ إن خلطة هذه الأسماء قد تصنع هذه المفاجأة. يراهن «المترو» على أسماء تتشارك معه مناخات الهوامش والتجريب والتهكم. إنها أسماء قادمة من قعر المدينة وهوامشها اليومية: عادل نصار الذي ينشر نصوصه على شكل كراريس وفولدرات، مستثمراً تجربته في عيادات الأطباء النفسيين في كتابة تقارير عن حياته وكوابيسه، وكان آخرها «سيرة مريض نفسي» التي وقعها في إحدى سهرات «المترو». مازن السيد الملقب بـ«الراس» الذي سبق للمترو أن قدمه كإحدى التجارب الواعدة في أغنيات الراب والهيب هوب. سمعان خوام القادم من ممارسات الغرافيتي والشعر والرسم، ونشر باكورته بعنوان صادم مثل «مملكة الصراصير»، وأتبعها بـ«دليل المهرّج». بانة بيضون التي درست العلوم السينمائية، ونشرت قصائد لافتة في الصحافة البيروتية، وتنتظر باكورتها «حارس الوهم». ملاك مكي الأقل «شهرةً» بين شركائها في الأمسية، رغم أنّها قرأت قصائدها في مناسبات مماثلة، لكنّها تشاركهم الإقامة في الهامش الذي يتعزز حضوره في بيروت.
هكذا، يكتمل رهان «مترو المدينة» في خلط «ركاكة» الراب، والنبرة العيادية، مع معجم الأصوات الجديدة. ماذا ننتظرْ؟ فلنذهبْ، ونستمعْ.

«شعر مش مطبوع»:9:00 مساء اليوم ــ «مترو المدينة» (الحمرا ـ بيروت) ـ للاستعلام: 70/309363



تجربة «الراس»

رغم الانتماء الهامشي، لا يكتب المشاركون الخمسة القصيدة ذاتها. وإذا كان لقب «الشاعر» يجمع أربعة منهم، فإن «الراس» ينفرد بكتابة نصوص جاهزة تكون جزءاً من تجربته في الراب والهيب هوب. ألبومه «كشف المحجوب» كشف عن مهارة في مزج الكلام اليومي بالسياسة ونقد الطائفية. بينما نشط مازن السيد على فايسبوك، وبات له متابعون يعجبون بنبرته الاحتجاجية التي تترجم مزاج الشارع، وتكشف عن خلفية يسارية وهامشية لا تقدس فكرةً أو جماعة. النبرة التي أحببناها في الأغنيات، تحضر عبر قصائد قد تكون مشاريع أغنياتٍ جديدة.