انطلاقاً من حادثة شخصية، حاولت فرقة «منوال» الصيداوية أخذنا عبر «برزخ» الذي اختتم عروضه أمس في «مسرح دوار الشمس»، نحو تجربة أكثر تعميماً لمدينة تخنقنا وتبقينا منتظرين بين الأنا والآخر. على مدى أربعين دقيقة، قدّمت المؤلّفة والممثّلة رؤى بزيع مونودراما متفاعلة مع التجهيز البصري المتعدد الوسائط multimedia الذي ظهر كجزء أساسي من العرض، لتشارك الجمهور الجالس على مدرج خشبي على المسرح تجربة الـ «كوما» أو الغيبوبة والموت السريري الذي مرّت به لمدّة 35 دقيقة.
أخذتنا الممثلة (إخراج جاد حكواتي) إلى حادثة الإصابة التي تعرضت لها في رأسها وظهرها ثم تمدّدها على سرير المستشفى وابتعادها عن جسدها والحياة من حولها، حتى قراءة القرآن عليها ورؤيتها لبيروت مساحةً مغطّاة بالبحص. وتنتهي القصّة هنا تقريباً: سرد حِرَفي للحادثة، وأداء لا يسمح بالخروج من إطار الشخصي ولا بالتماهي معه.
لعل المشكلة تبدأ منذ المشهد الأول حين وقفت الممثلة أمام الجمهور بلغة جسد غير واثقة و»تلقين» علمي لم نفهم المغزى منه. بناءً عليه، لم تستطع بزيع أن تقرّبنا من شخصيتها، أو أن تلعب بين خطوات القصّة وتأويلاتها الممكنة. منذ المشهد الأول، تواجه الجمهور بخطاب «علمي» أبعدنا كمتلقّين عنها منذ الدقيقة الأولى.
وقفت بفستان أبيض، ويدين تتحرّكان بميكانيكية، وتقمّصت شخصية معلّمة تفسّر درس بيولوجيا القلب باللغة العربية. هذا بالإضافة إلى أنّ شكل العرض في الجزء الأكبر من مدته، لا يتبع بالضرورة التسلسل الكرونولوجي الواقعي، بل ينقلنا باستعمال ناجح للملتيميديا عبر ما مرّت به بزيع. إلّا أن المخرج بدا مصرّاً في آخر 10 دقائق على «تفسير» ما جرى بطرح مواجهة مباشرة بين جسد الممثلة ونظرتها والجمهور، فتخاطبه «موضحة» ما جرى وتسلسله. يضيع العمل بين التفسير والشرح المفصّل لمجريات واقعية، وبين انعكاسات مثيرة وممتعة للملتيميديا عن حالات الجسد وانفصال الروح عنه. ويصطدم ذاك بحاجة تبدو عند المؤلفة لنقل أحداث الحادثة من دون الخروج من تفاصيلها التقنية.
ويقع المخرج أيضاً في خطأ قيادة عين وتركيز المشاهدين إلى زوايا مختلفة من المكان من دون سبب. يتّجه جسد الممثلة من الوسط إلى اليمين، يتوجّه إلى الجمهور، يجلس على سرير المستشفى، يتوقّف عن الكلام ليفسح المجال للتجهيز البصري، من دون أن يكون لحركته داعٍ. يبدو العمل بكلّيته محاولة لتفسير تجربة ومن ثم الخروج منها نحو واقع أعمّ يسمح بتواصل أكبر مع الجمهور الأوسع. إلّا أنه وقع في فخ التسطيح، فامتدّ العرض من دون تغيير يذكر في إيقاعه أو نمط تطوّره. وقد أسهم هذا التسطيح في قطع أي تواصل عاطفي كان ممكناً أن يخلق بيننا وبين بزيع.
شدّ العرض مداه ليصل إلى المدينة، بيروت. تتكلّم بزيع عن رؤيتها لبيروت المقسّمة ككتلة كبيرة من «البحص» تقف هي فيها على «دوار الطيونة». لكننا لا نجد شيئاً من هذه المدينة البحصية نتماهى معه. كذلك فإنّ هذا التوصيف ضمن مشهد قصير، لا يسمح بالغوص في علاقة بين موضوع العرض الأساسي «البرزخ»، وحالة بزيع بين الحياة والموت، وبيروت. أتكون بيروت البرزخ؟ أم تتخطّى تقسيماتها الحاجة إلى برزخ - حامٍ ينبّئنا بما ينتظرنا، يبقينا على تماس مع ما كان ويبدأ بوصلنا مع ما سيكون؟
حاول المخرج أن يحمّل الموضوع أكثر من الموجود أساساً في تجربة رؤى. لكنّه والممثّلة معه، لم ينجحا في جعل حالة البرزخ هذه، مكاناً سياسياً وتكويناً زمانياً لما نعيشه في المدينة ومن خلال تقسيمها. لكن يُحسب لهذا العرض معالجته أحد التابوهات الاجتماعية أي تجربة الغيبوبة والموت السريري، إلى جانب توسيع الخاص ليشمل العام. إلا أن أعضاء فرقة «منوال» لم يستطيعوا أن يطوّروا ما كان ممكناً أن يكون عرضاً حميمياً وحقيقياً في تقديم سرديات لذلك المكان/الزمان الذي لا نعرف، ولكننا نعيشه أحياناً.