نتساءل اليوم كيف وصلنا إلى هذه الحالة حيث بتنا نخاف من الهواء، ومن كل ما قد يسرّع حركة جبال النفايات المتراكمة التي تزحف ببطء صوبنا، حاملة معها صوراً مرعبة قد لا يكون أسوأها الكوليرا، بل يمكن أن تبتلعنا هذه النفايات، أو نظل نتنشّقها حتى تدخل في جلدنا ونتماهى معها إلى أن نصبح وإياها سواسية! في هذا الإطار، تدعو «الحملة الأهلية للحفاظ على دالية الروشة» إلى عرض وثائقي «إعمار على الموج» (1995 ــ 26 د) للمخرج اللبناني ماهر أبي سمرا وألدو بنكاري، وجيروم ألامارغو، بالشراكة مع جمانة بعلبكي مساء اليوم في «مسرح المدينة».
في فيلمه الوثائقي، يعود بنا ماهر أبي سمرا إلى بداية تشكل العنف البيئي والبصري والسمعي الذي تلا الحرب الأهلية. الشريط هو بمثابة رؤية استباقية للحاضر. جذور المشكلة كما يرصدها ماهر أبي سمرا تبدأ مع إعلان نهاية الحرب، والترويج لموجة إعادة الإعمار الذي كان بمثابة مشروع مشترك بين زعماء الحرب الأهلية الذين تسلموا الحكم، وغيرهم ممن دخلوا على الساحة للشروع في نهب البلد وتسميمه تدريجاً على جميع المستويات. لم يوفّر هؤلاء الأرض ولا السماء ولا حتى البحر من براميل النفايات السامة. وصل بهم الأمر إلى سرقة الصخر من الجبال والرمل من شاطئ صور، وسببوا زيادة في حالات الغرق والتلوث الصناعي في شكا وتهديد أمن السكّان. امتد هذا التلوّث إلى البحر، وكان من أثره القضاء على كل الثروة السمكية، وصولاً إلى أزمة الكهرباء، والماء والتلوث البيئي والسمعي من أثر الموتورات والآبار الأرتوازية.

يجسد عجلة إعادة الإعمار
التي هي مشروع لإعادة طمر البلد بسكانه إلى جانب نفاياته

بداية، ينطلق المخرج في بحثه من فضيحة براميل النفايات السامة التي صدّرتها إيطاليا إلى لبنان بين ١٩٨٧ و ١٩٨٨ إثر صفقة عقدتها مع القوات اللبنانية. ويقدَّر عدد البراميل يومها بــ١٥٠٠٠. لكن بعد كشف الفضيحة، استُعيد ٦٠٠٠ برميل فقط منها، وفق فؤاد حمدان، ممثل منظمة «غرين بيس»، في حين أنّ البراميل الباقية ما زالت موزعة بين الجبال والبحر. يجول المخرج بعدسته بين جبال النفايات المتراكمة في البحر التي تتهادى ببطء مع الموج، إلى شرائط الكهرباء المتشابكة كالمتاهات بين تجمعات الأبنية المكدسة عشوائياً كمكعبات الليغو التي تهدد حتى أمن الطيران. هذا ما حدث في مسبح الكوستا البرافا حيث اصطدمت إحدى الطائرات بطبقاته العليا في لقطة تجسد سوريالية الوضع، وصولاً إلى الشاحنات المحمّلة بصهاريج الماء بهدف بيعها. «يزرب» الماء على أسطحها المعدنية الصدئة والملوثة كما يصور المخرج على نحو متقطع يجسد الحالة العامة من السأم والصدأ التي يغرق فيها البلد. حتى الصيصان لم تسلم من موجة التلوث كما نرى في إحدى اللقطات الطريفة حين يصور المخرج قفصاً من الصيصان الملونة، إحدى الصيحات الغريبة التي كانت منتشرة حينها، وشاركنا للأسف في تعذيبها نحن أطفال جيل الثمانينيات. إنّها رؤية سوداوية وسوريالية في آن واحد، يرسمها المخرج معتمداً على جمالية بصرية تصور حالة الاختناق التي تعيشها المدينة بالتناقض مع مشاهد الموج الذي يتهادى برومنسية وببطء بجانب أكوام الزبالة، ووحش الشفاط الذي يلتهم جوف البحر. عبر السخرية الذكية، يجسد أبي سمرا عجلة إعادة الإعمار التي ليست سوى مشروع إعادة طمر البلد بسكانه إلى جانب نفاياته.
بعدما فرغوا من تدمير البلد، واستنزاف الدم البشري، اتجه زعماء الحرب الأهلية إلى نوع آخر من العنف المنظم والمشروع بعد تبوئهم مناصب حكومية هو نهب الطبيعة كما المواطن، والتسميم التدريجي الذي يشبه في أثره المخدِّر حركة الموج حتى يختنقا سوية. خلال بحثه، يصوّر المخرج شهادات مختلفة من السكان في شكا أو صور. بعضهم لا يجرؤ على تسمية الجهة المسؤولة عن سرقة الرمل بعد وصولها إلى الحكم. كذلك، يجري أبي سمرا مقابلات مع شخصيات مختلفة منها الصحافي جورج ناصيف من جريدة «النهار». يختتم بالحديث عن مشروع إعادة إعمار وسط البلد الذي أطلقه الشهيد رفيق الحريري. لا يبدو أنّ هذا ما يحتاجه البلد في ظل الوضع الاقتصادي المتردي، ما يهدد بتعميق الشرخ الطبقي. بعد مرور نحو 20 عاماً، تحول شريط ماهر أبي سمرا إلى وثيقة مهمة وشفافة تساعدنا في فهم الوضع الراهن. لا يمكن المشاهد الذي لم يبتلعه التلوث البيئي والسمعي والبصري والطائفي بعد، إلا أن ينتفض على مشروع إعادة طمره الذي ما زال مستمراً. قد تكون الوطنية كلمة كبيرة ومبهمة، لكنها قد لا تتعدى اليوم الشعور بضرورة استرداد هذا البلد أو قطعة الأرض التي نقطنها من قبضة كارهي الحياة الذين يقبضون على حياتنا.

«إعمار على الموج» لماهر أبي سمرا: 20:00 مساء اليوم ــ «مسرح المدينة» (الحمرا ــ بيروت). للاستعلام: 01/753010