عزيزي خليل حاوي،طلبت مني زميلتي (التي لا يردّ طلبها) مادة لملف في ذكراك الثلاثين (جريدتنا اسمها «الأخبار»، سأخبرك عنها لاحقاً ومن تعرف من فريقها). ولا أخفيك أنني عاجز عن الكتابة هذه الأيام، ويمكنك أن تشدد على كلمة عاجز أو تستبدلها بكلمة عنّين. وحتى لو أنني ما زلت أستطيع مخادعة نفسي والكتابة؛ تخيّلني أرتكب خطيئة كتابة مقالة عن «تجربتي» في قراءتك «من منظور شاعر جديد»، وأُنهيه بتمجيد قرارك الأخير؟

أو تخيّل أن أعرض لقرّاء متخيلين الرؤية الحضارية التي ينهض عليها شعرك (منافساً ريتا عوض) أو أن أتقمص عالِماً بالسرائر وأتسلل إلى ساعاتك الأخيرة لأقدّم استخلاصات مكررة بشأن: لم أطلقت على رأسك تلك الرصاصة في تلك الليلة من حزيران 1982... أو أربط بين لحظة «انتحارك» (وهي عندي لحظة شهادة) ولحظتنا المأساوية هذه؟ كل ما سبق مما يمكن أن يشكل موضوعاً لمقالة في جريدتنا الغراء سأضعه جانباً. هذه رسالة ودّية لا تتعرض لأي مما سبق. أنا مدين لك بأشياء كثيرة. أي شاعر سيتأثر حين يعرف مقدار تأثيره في من قرأوه، لاسيما أجيال نشأت بعد مغادرته. والأرجح أنك ستتأثر حين تعرف حجم تأثيرك على يفاعتي في أرض أساطيرك المسيحية (وإن كنت أظن أنني الآن حر منك ـــ بمقدار ما يستطيع الولد أن يكون حرّاً من معلِّمٍ أحبه لسنوات وشاركه عذابات بالكاد كان الولد يفهمها). أعترف بديونك عندي، لكن الشك يخامرني بأنك أيضاً وراء تلك الصدوع التي لا سبيل إلى رأبها داخل نفسي، وربما تكون أنت بالذات وراء «خراب بيتي». فأنا ما انفككت أردد: «من حصاد الحقل عندي ما كفاني/ وكفاني أن لي عيد الحصاد»، وهذه أول مرة أقولها: أشك في «عيد الحصاد»، وهو كما تعلم أسطورة لو تبددت، فلك أن تعتبر سنواتي الماضية ضائعة بلا معنى ولا عزاء. وعلى سيرة الأعياد، أتعلم أنّ جملتك «لا تُهَدْهِد وجعي/ كفَّاك مِنْ صخرٍ وفي عينيك أَعياد ذليلة» ألغت عندي ــ مذ وعيتها ــ الفصح والفطر والأضحى والميلاد وكل ما يعيِّد الناس كرمى له. أما «أطفال أترابي» فمن كوابيسي اليوم أنهم قد يصيرون حيث صار آباؤهم وصارت أُمهاتهم وتصير هذه المجتمعات التي يصعب التعرف إلى ملامحها المشوّهة في الفضائيات.
حين كنت لا أعرف شيئاً عن حياتك، كان المقطع من «الناي والريح في صومعة كامبريدج» الذي تقول فيه «جُرُّوني إلى الساحات، عرُّوني/ اسلخوا عنَّي شِعار الجامعة» مانفيستو أطلقه ضد المدرسة ولاحقاً ضد الجامعة؛ في حين واصلت أنت الدراسة الجامعية ببأس كاهن بل أصبحت أستاذاً جامعياً مرموقاً. واغفر تطاولي إن قلتُ إن الجامعة حدّت من امكاناتك الشعرية! أعرف أن رأياً كهذا مزعج وفي غير مكانه، لكن انزعاجك سيقل لو عرفت رأيي بمعاصريك من «رواد القصيدة الحديثة» وبعضهم بالمناسبة ما زالوا بيننا وعلى «عهدك» بهم. عموماً قبل أن أنهي، لا بد أن أنوه، خلال هذا الغبش في الرؤيا، أن الاحتلال الصهيوني ههنا لا يسمح ببواريد الصيد. وتقبّل محبتي.