بيرتولوتشي... هكذا اختار أصدقاء أحمد ماهر المقرّبون أن يسمّوه تيمناً بالمخرج الإيطالي الشهير صاحب «الإمبراطور الأخير»، لكن السينمائي المصري الذي يعدّ ثاني مخرج بعد يوسف شاهين يشارك في المسابقة الرسمية لـ «مهرجان البندقية السينمائي» عبر فيلمه «المسافر» (2009)، لا ينكر أنّه تلميذ لكلّ المخرجين الإيطاليين. الشقة الصغيرة التي يسكنها في القاهرة، تغطي جدرانها أفيشات الأفلام الإيطالية، وتحديداً أعمال فيدريكو فيلليني.
لكن الحوائط أيضاً مغطاة بلوحات لماتيس، وموديلياني وجياكوميتي... تتسرب أشعة خفية من ركن خفي في المكتبة لترسم صورة «ساعة» على جدار المنزل.. عوالم سريالية كاملة على الجدران، تحتل فيها كتب نيتشه، وبورخيس، وساراماغو واجهة المكتبة. يوضح: «هؤلاء أساتذتي». في رحلة بحثه عن ذاته، وجد هؤلاء، لكن يبقى لفيلليني مكانة خاصة. يضحك: «كلنا أبناء فيلم «ثمانية ونصف»» كما قال قبلاً وودي آلان عن المخرج الشهير. يستدرك: «فيلليني وتشارلي تشابلن محطات في السينما يصعب تقليدها، أو اعتبارها مجرد أسماء، إنّها دعائم الفن الحديث». حين نذكّره بأنّ بعض النقاد شبّهوا فيلمه «المسافر» بشريط فيلليني الشهير، يقول: «لم أنزعج ولن أكون فيلليني لأن ثقافتي مختلفة وفيلمي نتاج ثقافة مصرية». من المعلّم الإيطالي، تعلّم ماهر «حرية الخيال» يوضح: «خيالنا واقع تحت كوابح وقيود، المهم كيف نتخلص منها حتى نستطيع أن نحلم. فيلليني استطاع أن يلخص السينما في حلم طويل، وهذا ما أبهرني فيه». ربما أيضاً لهذا السبب، سنجد أنّ المفردات الأساسية في أفلام ماهر هي: الخيول، والقطارات، والصمت والمسافات البعيدة. وهذه المفردات لا تعكس عوالم «سريالية» بل عوالم ميتافيزيقية تقترب من الكابوس لا الحلم.
لم يكن العمل في السينما من «أحلام» أحمد ماهر، أو في خططه المستقبلية. صحيح أنّ والده هو السيناريست ماهر إبراهيم صاحب العديد من الأفلام التجارية في السبعينيات والثمانينيات أشهرها «رجب فوق صفيح ساخن» الذي أدى بطولته عادل إمام وسعيد صالح، ومسرحية «موسيقى في الحي الغربي»، وخاله هو الفنان الراحل صلاح قابيل بطل فيلم «زقاق المدق» و«الحرافيش»، إلا أنّ جو السينمائيين لم يكن مثيراً بالنسبة إلى ماهر. كان يجذبه أكثر الفن التشكيلي. منذ سن العاشرة، شارك في مسابقات الرسم على مستوى الجمهورية ونال العديد من الجوائز، وربما لهذا لم تكن العائلة نفسها تتوقع أن يدخل هذا المجال حتى فوجئت به بعد انتهاء دراسته الثانوية يحصل على منحة لدراسة الإخراج في روسيا. لكنّ الظروف السياسية وقتها حالت دون سفره، ما جعله يتقدم إلى «معهد السينما» وتم قبوله. بعد تخرجه، تدرب فترة قصيرة مع يوسف شاهين. وقتها، أخرج ثلاثة أفلام قصيرة حصلت على «جائزة الدولة» في الإبداع ليسافر بعدها للدراسة في روما. هناك يبدأ في دراسة الفن بتعمق أكثر، وكانت أطروحته للماجستير حول «المكان في الحلم السينمائي». رحلة إيطاليا لم تكن مجرد رحلة دراسية في عوالم السينما وحدها، هناك «الفن على قفا من يشيل». درس ودرّس الأداء التمثيلي، وتعرف إلى الفن التشكيلي بمدارسه المختلفة، وعلم النفس، والفلسفة، تعلم أيضاً... «الحرية». في فيلمه الروائي الأول «علامات إبريل» (أدّت بطولته سوسن بدر ومحسنة توفيق)، لن يغيب الصدام مع المجتمع، إذ تناول العمل الكبت الجنسي الذي تعانيه أختان عانسان يظهر مراهق في حياتهما، مستلهماً في الفيلم تيار «الدوغما». وهو ما تجلى لاحقاً في «المسافر»، إذ يؤدي الزمن دور البطولة المطلقة في الفيلم، حيث الحوار الفلسفي الغامض، واللعب بالألوان والإضاءة حتى يبدو كأنّنا أمام لوحة تشكيلية. يوضح: «أنا أهتم بالزمن أكثر من اهتمامي بالتاريخ، لكن الزمن يدفعك إلى استخدام التاريخ. أزمة الشخصية الرئيسية في الفيلم نابعة من علاقتها بالزمن. والزمن في الفيلم متشعب. إنّه زمن الفيلم وزمن الحكي وزمن الحدث وعلاقة الشخصية بالزمن الذي لا يؤثر فيها كما تبوح. التاريخ في الفيلم مجرد خلفية لأحداث سياسية: نكبة الـ 48، حرب الـ73، لكن الأهم هو «المسار الانساني عند المشاهد غير المعني بالتواريخ، كنت أخشى من المشاهد العربي وتأويلاته لأنّها ستفسد الفرجة ولأنني ضد تعمد الدلالات والرمزية في المنتج الفني». يكتب ماهر أفلامه بنفسه. رغم أنّ والده سيناريست، إلا أن المسافة بينهما كبيرة. الأب أشهر من كتب أفلاماً تجارية كان الجمهور يتسابق على شباك التذاكر لمشاهدتها، بينما أفلام الابن تكاد تكون «مغامرات» فنية مثقلة بالفلسفة، ما يبعدها عن الجمهور. مغامرة ضد السائد، وضد شباك التذاكر، كأنّ الابن يقتل الاب رمزياً. يضحك: «أنت تعبر عن رغباتك لا رغبات الجمهور، هذه المشكلة موجودة في العالم كله، لكنّها تتضاعف في مصر، حيث التواصل بين صناع الثقافة والمجتمع محدودة. لم يكن في ذهني أن أكون نخبوياً أو شعبياً، ما يعنيني فقط أن أصنع فيلماً، ولا أضع في اعتباري المهرجانات أو الجمهور، ويمكن أن يكون ما أصنعه مجرد هلوسات».
لا يرفض أحمد ماهر العمل مع كتاب آخرين، لكنه مؤمن في الوقت ذاته بأنّ المخرج «ليس ميكانيكي أفكار، كما يحدث في هوليوود، بل صاحب فكر لا مجرد منفذ»، كما أنّ أفلامه تعكس دوماً مخاوفه لا يقينه يقول: «الحيرة هي منشأ العمل. اليقين لا ينتج عملاً فنياً. هذه الحيرة رافقتني خلال مراحل الفيلم، وبها أستطيع إنجازه».
قبل «ثورة 25 يناير»، لم يكن ماهر من الناشطين السياسيين. كانت لديه اهتمامات سياسية، ومواقف ثابتة. موقفه من نظام حسني مبارك أعلنه في أحد البرامج السياسية الشهيرة. يومها كان أحد الذين ذهبوا لاستقبال محمد البرادعي في مطار القاهرة بعد عودته نهائياً إلى مصر. وهو الموقف الذي جعل أجهزة الأمن تتخذ من فيلم «المسافر» وسيلة للضغط عليه، فمُنع الفيلم من العرض بحجج كثيرة وأسباب أمنية... ثم كانت الثورة. كالكل، لم يكن يتوقع أن تأتي بنتيجة ما، أجّل ماهر سفره إلى إيطاليا أياماً عدة كي يشارك في التظاهرات. تصوّر أنّ الأمر لن يكون سوى تظاهرة عادية سرعان ما تنفض. في 25 كانون الثاني (يناير) 2011 «شاهدت مجموعة من الشباب قليلي العدد، لكنّ أصواتهم تعكس إرادة فاقت عددهم. أمام «مسجد مصطفى محمود» وبعد أول هتاف ومن دون مبرر، إذا بالشرطة المتسمة بالصلف تنقض على هؤلاء، هنا كانت لحظة الانفجار التي استمرت حتى رحيل مبارك». لكنّ تتابع الأحداث أصاب ماهر بجلطتين في ساقه. الخوف على الثورة، متابعة أحداثها أولاً بأول، المشاركة في صداماتها حتى وصول التيار الإسلامي إلى الحكم... كل ذلك لم يصب ماهر باكتئاب ما بعد الثورة. عندما يسأله الأصدقاء: هل فشلت الثورة؟ يتحسس مكان الجلطة في ساقه، يصمت قليلاً قبل أن يقول: «الثورة لم تبدأ بعد»!



5 تواريخ

1968
الولادة في القاهرة

1993
حصوله على الماجستير في موضوع «المكان في الحلم السينمائي» من روما

1998
باكورته الروائية «علامات إبريل» من بطولة محسنة توفيق وسوسن بدر

2009
عرض فيلمه «المسافر» في «مهرجان البندقية السينمائي» ليصبح ثاني فيلم مصري يعرض في المهرجان بعد «حدوتة مصرية» ليوسف شاهين

2012
ينجر شريطاً تسجيلياً عن «موسيقى الثورات العربية» يصوّره بين القاهرة وبيروت وتونس وليبيا، ويستعد لتصوير فيلمه الروائي «بأي أرض تموت» من بطولة عمرو واكد.