منذ بداياته، اشتغل بسام جعيتاني (1962) على أعمال مفهومية لا تنتمي فوراً وبآلية مسبقة إلى فنون اللوحة التقليدية. تداخلت هذه الأعمال مع هواجس تقنية وفيزيائية وكيميائية لعب فيها الفنان اللبناني على خصائص المادة، بنيتها ونسيجها الداخلي، سطحها الخشن أو الصقيل، صلابتها أو طواعيتها، ومدى تشرّبها للألوان أو لعمليات اللصق والترسّب والضغط والتلحيم والالتواء، مستثمراً في ذلك مقارباتٍ فلسفية ونظرية متأثرة فعلاً بخلاصات ومعادلات علمية. وقد سبق له أن قدم عدة تجريبات في هذا السياق من خلال معرضه «علم نفس المادة»، حيث عمل على مواد مختلفة وبتقنيات متعددة، وتجاور ذلك مع اقتباسات ونصوص فلسفية حاول من خلالها البحث في إسقاطات حضور المادة وتغيراتها الفيزيائية. ولم تغب هذه المقاربة النظرية والفلسفية عن أعماله ومعارضه التالية.
الفنان الذي درس في باريس وعاش فيها لفترة، وعرضت أعماله في بريطانيا وأميركا وفرنسا، اختار الاتجاه إلى سياقات وممارسات على صلة قوية بالفنون المعاصرة وتعبيراتها المتغيرة باستمرار، واختار داخل هذه السياقات أن يحتفظ بخصوصية معينة توفّر له مساحة تجريبية للعمل على المادة وعلى المفاهيم والمقاربات الفلسفية والعلمية لها.
هناك مزجٌ بين أصداء التجهيز والأشغال اليدوية والبرفورمانس. نستعيد هنا معرضه «رقّاص الساعة»، حيث استلهم «رقاص» أو بندول الفيزيائي الفرنسي الشهير ليون فوكو في إثبات حقيقة دوران الأرض حول محورها، ونقل المعادلة العلمية إلى الفن باستخدام الدهان والصدأ والورق وتفاعلات الصلابة مع الماء والهواء. وكذلك معرضه «Sueurs d›acier» الذي حضرت فيه تقنيات مماثلة في اختبار الممكنات الموجودة في القماش المغمس باللون، واللعب على التسربات المتفاوتة لهذا اللون داخل نسيج القماش، وهو ما سمح بخلق أشكال وآثار نافرة بالتجاور العشوائي مع أشكال وآثار أخرى مطوية ومنخفضة.
بطريقة ما، تبدو هذه الاستعادات ضرورية لفهم التجريب الذي يقترب فيه بسام جعيتاني من المعادلات الكيميائية والفيزيائية للمادة، والذي نجده بطبعات أو ممارسات أو طرق أخرى في معرضه الجديد «شظايا» الذي افتُتح أول أمس في غاليري «جانين ربيز». فهنا أيضاً نرى عمليات التصديء واللصق والقماش والغراء وغيرها، لكن هذه العمليات مدعوّة لوظيفة أخرى يقترب فيها الفنان من موضوعة الحرب الأهلية اللبنانية (1975 – 1990)، من خلال أداءٍ مفهومي يتجاوز محدودية المعروضات المتمثلة في تسعة عشر اسماً من أسماء الله الحسنى، إلى الخلاصات الاجتماعية والسياسية والطائفية لفكرة القتل باسم الله. المعرض بهذا المعنى قائم مجدداً على مفهوم أو معادلة أو اختبار فلسفي.

يقترب من
المعادلات الكيميائية والفيزيائية للمادة
المعروضات تبدو بسيطة وقليلة، وهي موزعة فعلاً على جدران الغاليري كشظايا. أسماء الله منجزة بخطوطية كيفية لا يمكن قرءاتها أو تخمينها إلا بالاقتراب منها ورؤية انعكاسها على مرآة صغيرة تم تثبيتها بجوار كل اسم منها، حيث يكتشف زائر المعرض أن الأسماء معروضة بشكل مقلوب تقريباً لكي تبدو انعكاساتها بالطريقة الصحيحة.
العرض المقلوب يحرر الأسماء من ذاكرتها الجاهزة، ويُبعدها عن فنون الخط العربي، فهي مكتوبة أصلاً بأشكال مشوهة ومتعرجة مع إضافات شكلانية تجعلها أشبه بقطع أثرية تعرضت للصدأ وعوامل الطبيعة. انعكاسها الصحيح على المرآة يعيد لأسماء الله نقاءها الروحي، ويحمل في الوقت نفسه إدانة لاستخدامه في الصراعات والحروب. الأسماء هي جوهر المعرض التجهيزي، فهي «شظايا» أو قطع ملفوفة بقماش تترجم فكرة الأكفان وعلاقتها بالموتى الذين هم هنا ضحايا الحرب. وإلى جانب الأسماء يعرض الفنان قطعة مختلفة قليلاً، هي عبارة عن جملة تُظهر عدد ضحايا الحرب اللبنانية منعكسة أيضاً في مرآة.
ويبدو أن اختيار 19 اسماً له علاقة بمساحة العرض المتوافرة، وربما كان الفنان قد اشتغل على الأسماء الـ 99 جميعها. وبغض النظر عن هذا التفسير، يمثل المعرض مقاربة أسلوبية مهمة داخل تلك المقاربات والممارسات التي قدم فيها فنانون لبنانيون كثر فكرة الحرب وتأثيراتها المدمرة في الهويات الفردية والجماعية للمجتمع اللبناني، واستمرار هذه التأثيرات في زمن السلم الأهلي أيضاً.

«شظايا: بسام جعيتاني»: حتى 26 تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري. «غاليري جانين ربيز» (الروشة). للاستعلام: 01868290