القاهرة | أبوه الروحي محمود درويش. منه تعلّم «اللغة» وحساسيّتها وكيف تكون كاشفة. أما أساتذته في الرواية فكثيرون، أبرزهم ماركيز. من الروائي الكولومبي تعلّم أن تكون الجملة الأولى للعمل كـ«رصاصة» حتى لا ينشغل القارئ بالحدوتة بقدر إنشغاله ببناء العمل وتقنياته وشخوصه. السرد التقليدي بالنسبة إليه خداع للقارئ. منذ البداية، يكشف ما يريد قوله، لكنه يراهن بعدها على «المتعة» باعتبارها غاية الكتابة الكبرى.
عز الدين شكري فشير ليس فقط روائياً أصدر ستّ روايات وصلت إثنتان منها إلى جائزة «بوكر» العربية («غرفة العناية المركزة»، و«عناق عند جسر بروكلين»). هو أيضاً كاتب مقال وأستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأميركية في القاهرة، ودبلوماسي عمل في وزارة الخارجية لسنوات. قد يكون هذا التعدّد أبرز سمات صاحب «مقتل فخر الدين» (1995) ليس فقط في حياته الشخصية، بل أيضاً على مستوى الكتابة. في رواياته، نجد أنفسنا أمام حدث يتعدّد رواته من دون بطل رئيسي تقريباً. خطوط البطولة التي يحفظها السرد التقليدي لا نجدها في أعماله. «لا أحد يلعب دور البطولة، وليست هناك حكاية واحدة في الحياة». إذاً، إنّها ديموقراطية السرد أو الفن، فهل تعود إلى سفراته المتعددة حول العالم؟ يضحك: «عندما كنت في الجامعة، كان هناك ناصريون، وإخوان، وماركسيون. كان الكلّ يسألني عن انتمائي كأنه ضروري أن تتم قولبتك في صندوق، هذا هو التيار الغالب في النخبة المصرية. أن تكون الهويات واضحة. بهذا المعنى، أنا آت من الهامش». الثورة المصرية كحدث نقطة أخرى تكشف عن إيمانه بالتعدد. حدث واحد تعدّدت أشكال مقاربته: «ثلاثية التحرير» شهادة قصصية كتبها عن الأيام الـ 18 في ميدان التحرير ونشرت في مجلة «الكرمل»، ورواية «باب الخروج» (دار الشروق) التي صدرت أخيراً تتناول مستقبل الثورة المصرية، وكتاب «في عين العاصفة» (مؤسسة قطر للنشر ــ دار بلومزبري) السياسي الذي يجيب عن سؤال: هل ما تشهده مصر هو العاصفة الكاملة أم نحن في طريقنا إلى تصادم أكبر؟
ثلاث مقاربات لحدث هو استمرار لفكرته عن «التعددية»؟ يجيب: «عندما أكتب سياسة، أنظر بعين باردة أشبه بنظرة الطبيب الجراح. لكن في الرواية، أكتب بالمشاعر والهوى وما أريده أن يحدث». يوضح: «الشهادة والرواية متقاربتان. أنا فخور بالشهادة لأنني نشرتها في وقت مبكر، تحديداً في فترة شعار «الجيش والشعب إيد واحدة». لكنّي كنت شديد التشكك في نوايا المجلس العسكري. أما مقالات التحليل السياسي فهي منحازة لكنها لا تجامل ذاتك أو المعسكر الذي تنتمي إليه، لذا أكتب مثلاً عن «الهرتلة الثورية» وهو نقد للمعسكر الديموقراطي الذي اخترت أن أنتمي إليه». لكن ماذا عن النخبة التي تتعرّض للنقد في كتابة فشير السياسية؟ يجيب: «إحدى المشاكل الحالية في النخبة المصرية أنّها لا تدرك أنها جزئية، هي تتصور أنّها نخبة المجتمع ككل، وهذا يرجع لكونها ذات رؤية تراتبية للمجتمع والثقافة. يتصور المثقف الستيني (عمراً وجيلاً) أنّه أرقى أنواع التعبير الثقافي. ثقافة الهامش تعلن عن نفسها، وقد تخلق نخبتها الخاصة، أو لا تخلق. وقد تتحوّل إلى متن قريباً». يتوقف فشير: «السياسة قبل الثورة اقتصرت على معارك لفظية وبيانات. الآن، نحن نعيش سياسة لم نتدرب عليها. الجميع يتخبّط».
مع ذلك، هو متفائل. يعرب عن قناعته بأنّ ما جرى من تغيير حقيقي وعميق لا يمكن هزيمته: «لنر ما جرى في فرنسا 68. لم يحكم الشباب. جاء ديغول في شبه انقلاب عسكري. لكن الثورة أعادت صياغة المجتمع. كذلك الأمر في أميركا الستينيات. لم يرحل نيكسون، لكنّ حركة الشباب غيّرت أميركا، قضت على سياسة الفصل العنصري. هذا النوع من التغيّرات لا يمكن الوقوف في وجهه. وانتصار الثورة في المستقبل لا يعني أنّنا سنتحول إلى مدينة فاضلة».



شجرة ميتة

ظلّ عز الدين شكري فشير على هامش الحياة الثقافية المصرية. يعتبره المثقفون ديبلوماسياً ويعتبره السياسيون روائياً. هو سعيد بهذا الارتباك لكنّه يفرح أكثر كونه روائياً. الكتابة بالنسبة إليه هي الأصل بينما باقي الأشياء فروع. فترات العمل الدبلوماسي كانت محدودة، كان يتنصل منها مع أول فرصة للخروج للدراسة مثلاً. وعندما أتيحت له فرصة تولّي مسؤولية أمانة «المجلس الأعلى للثقافة» لم يطق المنصب أكثر من أربعة أشهر. فترة العمل القليلة في المؤسسة الثقافية زادته يقيناً بأنّ «المؤسسة الثقافية مصيرها الاندثار بعد الثورة «وقد تظل مثل شجرة ميتة لكنّها لن تنتج شيئاً».