«أنا شاب في سن الـ 73». قالها محمد خان ضاحكاً إثر العرض العالمي الأول لجديده «قبل زحمة الصيف» (90 د.) ضمن «مهرجان دبي السينمائي الدولي الثاني عشر» (9 – 16 كانون ديسمبر 2015). السينمائي الكبير لا يفخر من فراغ. الأرقام تتكلّم عنه: 25 عنواناً خلال 36 عاماً، من دون ذكر الأفلام التي شارك فيها بصفات أخرى كتدقيق السيناريو والتمثيل وتقديم المشورة لأصدقاء وتلاميذ وراغبين. الشريط الذي ينافس على جائزة «المهر الطويل»، يحطّ الرحال في أحد مصايف الساحل الشمالي، بسيناريو كتبته غادة شهبندر عن فكرة لخان، مع مشاركة لنورا الشيخ في الحوار. الفكرة راودت صاحب «زوجة رجل مهم» أثناء قضاء عطلة في مصيف بحري منعزل، قبل أن يكتظ شاطئه بالمصطافين. نقلها إلى شهبندر التي تمتلك خبرةً في مثل هذه الإجازات، ليكون «قبل زحمة الصيف» باكورة نصوصها الطويلة.
هذه المرّة الأولى التي يبتعد فيها محمد خان عن القاهرة منذ «الغرقانة» (1993)، الذي تدور أحداثه في القطب المقابل من الخريطة: الساحل الجنوبي، وإن كان حضور عاصمته الأثيرة قوياً في بناء الشريط الجديد. كما في «فتاة المصنع» (2014)، يتعامل خان مع المجتمعات الصغيرة على أنّها مقطع عرضي من مجتمع كامل. 5 شخصيات تقود الأحداث. مهلاً، ليست أحداثاً متلاحقة بالمعنى التشويقي المعتاد، بل يوميات هؤلاء المنعزلين عن العالم الخارجي بإرادتهم واختيارهم. «د. يحيى» (ماجد الكدواني) وزوجته «ماجدة» (لانا مشتاق) يقضيان عطلةً رتيبة في أحد شاليهات الصفّ الأول قبل الزحام. تصل المترجمة المطلّقة حديثاً «هالة» (هنا شيحة)، ليجد «يحيى» في التلصص عليها ومراقبتها متنفساً لإحباطه الزوجي والجنسي، كما تفعل «ماجدة» من خلال اليوغا والتأمّل. المطلقة أمّ لولدين، تستأجر الشاليه المجاور ترقباً لمجيء حبيبها الممثل المغمور (هاني المتناوي). «جمعة» (أحمد داود) عامل صعيدي بسيط يقوم بخدمة الجميع. الفيلم يُروى من وجهة نظره، وهو خيار معتاد في سينما خان المنحازة للمهمّشين. هكذا، يحقق خان ميزة إنتاجية، اعتزّ بها في ندوة ما بعد الفيلم: «ما بكلّفش». الميزانيّة القليلة التي ساهم فيها المخرج بنصف أجره، حملتها 7 جهات و5 منتجين، ليصوّر الشريط خلال شهر لا أكثر. هذا دليل على ذكاء الرجل وحيويته وقدرته على مواكبة متغيّرات الصناعة، التي باتت تلجأ إلى الإنتاج المشترك وصناديق الدعم مثل «إنجاز» التابع لمهرجان دبي. الهدف هو تمويل أفلام قد لا تغري المنتجين المسيطرين على السوق المصرية.
ثمّة اشتغال لافت على التفاوت الطبقي

على امتداد 5 أيام (كأنّه يوم لكل شخصيّة)، ندرك أنّهم ليسوا هنا لمجرّد الاستجمام. هم هاربون من أزمات ومشاكل عالقة في العاصمة. «يحيى» مبتعد عن فضيحة إهمال تلاحق مشفاه. «ماجدة» محبطة شكلاً وزواجاً. «هالة» متذمّرة من تقاعس طليقها عن العناية بالأولاد. حبيبها المستغل عاجز عن تحقيق الشهرة ولعب الأدوار التي يحلم بها. المشترك بين الجميع هي الرغبات بأنواعها. الجنس بالدرجة الأولى، والطعام (يحيى)، والمال (الممثّل). هذه التيمة الرئيسة في الشريط، الذي ألحق أزمةً موازيةً بكل بطل من أبطاله.
العاصمة حاضرة بقوّة. أثرها يكاد يتجاوز ما رأيناه في بعض أفلام محمد خان، التي لم تخرج من القاهرة. الأخبار منتظرة بلهفة عن طريق الصحف. نعم، لا بدّ من عنصر مادي آت من المدينة، على الرغم من وجود اتصال بالإنترنت في المكان. الموبايل وسيط أساسي، لكنّه دخيل على هذه العزلة. نبقى مع تعابير الممثلين الذين يتلقون الأخبار، من دون أن نسمعها صوتاً على الطرف الآخر. الأزمات الماديّة في القاهرة، وتداعياتها الداخليّة عند الشاطئ. الحياة معلّقة «هناك»، على الرغم من رتابتها «هنا».
ثمّة اشتغال لافت على التفاوت الطبقي، حتى بين الأثرياء أنفسهم. الفرق بين مؤسّسي الجمعية التي أنشأت الشاليهات، وبين من اشترى فيها لاحقاً، بين أصحاب الصف الأول ومالكي الصف الثالث. «د. يحيى» تسلّق على عائلة «ماجدة» وحقق ذاته، وإن بقي بخيلاً يعيّن أرخص الأطباء في مشفاه. الممثل يحاول فعل ذلك مع «هالة»، التي يستغلها جسدياً كذلك. تحت كل هؤلاء يقبع «جمعة». هو الناجي الوحيد من كل ذلك. المبتسم، النشيط، الذي يراقب الجميع من دون أحقاد، مع أنّه أكثرهم أهلاً لذلك. حتى اشتهاؤه لـ «هالة»، يبقيه لنفسه من دون أيّ ترجمة سلبيّة. كذلك، لا يبدو خان متحمّساً لفكرة الزواج، بعدما طاردها في «فتاة المصنع» قبل عام.
«اليوبيل الفضي» في فيلموغرافيا محمد خان سهل ممتنع. ساخر في المضمون، بسيط في الشكل. ماجد الكدواني يسجّل أداءً، يُضاف لأدواره اللافتة في «678» لمحمد دياب و«ديكور» لأحمد عبد الله. أحمد داود يثبت جدارته مجدداً، بعد «ولاد رزق» لطارق العريان ومسلسل «سجن النسا» (إخراج كاملة أبو ذكري، وسيناريو وحوار مريم نعوم). هنا شيحة تتوهج في أوّل بطولة سينمائية. هي متصالحة مع نفسها، تتصدّى لدور من المؤكّد أنّه كان ليُرفض من ممثلات استسلمن لحماقات النجومية والفن النظيف. موسيقى ليال وطفة غير متكلّفة، تنساب بخفّة لخدمة الدراما. «قبل زحمة الصيف» يحوم حول صوفيا كوبولا، ولا يبلغ حدّة «مجزرة» بولانسكي ونجوم كروننبرغ، ليقول جديداً في مشوار أستاذ في الواقعية المصريّة.