دخل المشهد الإعلامي اللبناني في زمن «الخرافة العلميّة»… والنقاش الدائر اليوم حول مسؤوليّة الإعلام فصل جديد في المسرحيّة العبثيّة نفسها. من جهة، هناك لغة السلطة المحنّطة، ومن الأخرى لغة التصعيد العنيف التي هي، كما نعرف، أضعف التكتيكات الدفاعيّة. بعض المحطّات استحدث بالأمس القريب تقنيّات متطوّرة، قوامها المتاجرة بالعنف على أشكاله في النهار، ثم تدارك الأمر بخطبة أخلاقيّة راقية خلال نشرة الأخبار المسائيّة. الآن جاء زمن تسخيف الحريّة… باسم الدفاع عنها طبعاً. حريّة من؟ حريّة ماذا؟ حريّة تحريف عتاب منطقيّ هادئ وجّهه حسن نصر الله إلى بعض الإعلاميين. «خافوا ربّكم» قال قبل أيّام، داعياً إيّاهم إلى الرأفة بأهل المخطوفين. فإذا بالمعلّق يتجلّى، مساء أمس، بسخريته المرهفة: «بعد «الخوف الإلهي»، جاء دور الخوف من «المجلس الوطني للإعلام». عجباً، أهكذا نغطّس الحريّة في مستنقع الاختزال والغوغائيّة والتعنّت؟
تلك ليست حريّة سيّداتي سادتي. طالب سنة أولى في أي كليّة إعلام تحترم نفسها، يمكنه أن يؤكّد لكم ذلك. مسرحة العنف من دون مسافة نقديّة، سلوك غير مهني. نشر أخبار خطيرة من دون وزنها، والتأكّد منها، ومراعاة وقعها، ليس حريّة… كم من المحطّات المحترمة في العالم رفضت بثّ مادة ثمينة لجهة الرواج والتسويق، لأنّها غير لائقة مهنيّاً، أو لتفادي الترويج الايديولوجي لطرف مشبوه. هل هناك من يريد أن يقنعنا بأن فيديو الرهائن اللبنانيين خلال عشائهم الرمضاني على الحدود التركيّة، من سيناريو وحوار وتصوير وإخراج خاطفيهم، سبق صحافي، أو رسالة اعلاميّة؟ هل الكاميرات التي تسابقت على استجواب المخطوفين السوريين من قبل جماعات مسلّحة، جديرة بالثقة والاحترام؟ كل المخطوفين اعترفوا تلك الليلة المشؤومة بتورّطهم، حتّى خلنا الجالية السوريّة في لبنان بأثرها، تنتمي إلى الجيش السوري الحرّ.
الصحافي الحرّ لا يمكنه أن يتحوّل إلى دمية، أو كومبارس، أو شاهد زور. ليس من الحريّة في شيء تجاوز الأسئلة الأخلاقيّة، والتعاطي مع ما نشاهده بسذاجة وتلقائيّة، وتحويل الإعلام الى استعراض مشوّق، أو ارتجال هستيري، أو بروباغندا مشبوهة. وتأجيج الأهواء والغرائز، وتشجيع الفوضى، واللعب بالمشاعر، واستثارة المهزلة… ليس من الديموقراطيّة في شيء، أن نؤبلس من ينتقدنا، وأن نتاجر بالربيع العربي المجهض للهروب من مواجهة أخطائنا كما سمعنا أمس: «هل يتّجه لبنان إلى تقييد الإعلام، في لحظة سقوط الدكتاتوريات؟ أليس غريباً أن يتحوّل الفلول إلى وعّاظ في الأخلاق المهنيّة؟». الاستخفاف بالمهنة يفتح الباب أمام بقايا السلطة القمعيّة، كي تحاول فرض وصايتها طبعاً. الإعلام يعرّض الحريّة للخطر حين يسيء استعمالها، ويعيد الاعتبار إلى ذهنيّة الوصاية والرقابة «الأبويّة»، ويهدّد الاستقرار الأهلي والنقاش الديموقراطي. كل ذلك حدث للأسف، ويحدث اليوم. وليس من نيّة لنقده، تمهيداً لتجاوزه وطيّ الصفحة.
بعد الأربعاء الأسود، قلّة تجرّأت على إدانة الانحدار إلى هذا الدرك من الخفّة وانعدام المسؤوليّة. وكان لا بد من استيعاب الفخّ الذي أخذنا إليه «أصدقاء أبو ابراهيم»، قبل أن تستفيق قيادات البلاد فجأة على موّال جديد: «التسيّب الاعلامي»! وتلك مهزلة أخرى. من يسمع المسؤولين ينتقدون تجاوزات الأسبوع الماضي، يخيّل إليه أن الأمر مجرّد زلّة عابرة، في مناخ سياسي تتحكّم به دولة المؤسسات، وقواعد ديموقراطيّة راسخة. وها هو «المجلس الوطني للإعلام» الذي ينتزع من رقاده عند كلّ «حزّة» جديدة، يجد نفسه في موقف ليس مهيّأً له، لا بتركيبته ولا بإمكاناته، في أدغال الديموقراطيّة اللبنانيّة. ها هو النقاش يتمحور حول ضرورة «الاعتذار» أو عدمه. الدولة كما ذكّر الوزير، ستجدد تراخيص المحطات اللبنانيّة قريباً. لكن هل بوسع وزير أو رئيس حكومة، أن يكسر منطق المحاصصة، وتوزيع الغنائم والامتيازات في دولة الطوائف التي تنحصر حياتها السياسية في التلفزيون؟
يمكننا منذ الآن أن نتصوّر ما سيقال في الاجتماع الذي سيضمّ غداً وزير الإعلام وليد الداعوق وعبد الهادي محفوظ رئيس «المجلس الوطني للإعلام» وزملائه، في مواجهة أصحاب الشأن وصنّاع القرار في الإعلام المرئي والمسموع. سيتكلّم بعضهم على الضوابط، والبعض الآخر على الأمانة للواقع. سنسمع كلمة حريّة، ونتخيّلها مثل زهور البلاستيك. حوار عقيم بين طرفين، غير راغبين في، أو غير قادرين على، نقل الحياة السياسيّة والإعلاميّة إلى درجة من الشفافيّة، والرقيّ، واحترام الرأي العام. ترى ما سيقوله المجتمعون بعضهم للبعض الآخر؟ أما زال هناك من هو قادر على التذكير بقواعد اللعبة أصلاً؟ أيّها السادة، لا تخافوا ربّكم، لا تخافوا الوزير الداعوق، ولا عبد الهادي محفوظ. احتكموا فقط إلى ضميركم!