كان ياسر عرفات يفتخر، خطابةً وشفاهاً، بهذه الجملة: «ديموقراطية غابة البنادق»، مشيراً، بالطبع، إلى الفصائل المسلحة المختلفة التي تكوّن الجسم الفلسطيني المقاوم، بعد تبنّي استراتيجية «الكفاح المسلح». أما ما يعنيه بالديموقراطية، فهو وجود هذه الفصائل (كان محمود درويش يسمّيها «الفسائل» أي الغصون الصغيرة في الشجرة) في «منظمة التحرير الفلسطينية» كوطن معنوي للفلسطينيين في المنفى، وحيث مزاعم الانتخابات الديموقراطية، فيما هي مجرد «كوتا» وحصص متفق عليها. وكنت دائماً أستغرب الافتخار بهذه التسمية.
على الأرض، سواء في الأردن، أو لبنان، أو المخيمات، كانت تجري اشتباكات دامية، وتصفيات جسدية واغتيالات، ومناطق محرمة... إلى أن أصبح الفلسطينيون، ذات لحظة، جزءاً من صراع دامٍ بين اللبنانيين. وطبعاً، كان اللبنانيون صنّاعاً لوهم آخر تحت مسمّى مغشوش اسمه «الحركة الوطنية» التي كانت في نهاية المطاف، قائدة ـــ شاءت أم أبت ـــ للحرب الأهلية، أمام طرف آخر حروبه الأهلية منوعات وأصناف. بنادق وديموقراطية؟ حرب أهلية... وحركة وطنية؟ فنادق وبنادق؟ ديموقراطية وطائفية؟
أخيراً، أي منذ عام وسبعة أشهر، دخلت سوريا الأزمة الكبرى الأولى في تاريخها منذ مئات السنين. دخلتها من كل بوابات السرد السياسي المليء بشعارات مغشوشة من أولها إلى آخرها... سواء كانت هذه الشعارات بنت السلطان أو بنت الجارية. السلطان وعد بالإصلاح... وهو لا يكاد يرقى إلى مستوى واجب الدولة الطبيعي في الأحوال الطبيعية تجاه مواطنيها. ومع ذلك، عند التنفيذ، ازدادت حياة السوريين بؤساً وخداعاً! والمعارضة وعدت بشيء يحتاج إلى أنبياء لتنفيذه وهو: الحرية والديموقراطية والدولة المدنية. وطبعاً، ثمة أول شيء طرحته شعاراً: «إسقاط النظام» الذي يحتاج إلى بضعة شمشونات يعملون بصفة مياوم عند يوم القيامة... لتنفيذه! وهكذا علِق السوريون بما لم يألفوه، وهو غريب عن حياتهم، ولأول مرة: بديهية السؤال، وتعقيد الجواب! فلم يستطع أحد سوى عباقرة الطرفين ــ العبقرية اللسانية بالطبع ــ التأكد من المصير الفعلي الذي تمشي إليه سوريا وهي مفتوحة العينين، لكن بلا بصيرة أبداً! ولأنّ الأزمة شبه وجودية... فقد دخلت البلاد في امتحانات جدارة غريبة من نوعها: جدارة السلاح الفردي، جدارة السلاح الثقيل، جدارة التماسك الاجتماعي، جدارة الحوار، جدارة الخوار (نقطة على الحاء)، وثمة تفاصيل مرعبة عن الجدارة الأخلاقية التي شاع منها ما يندى له كعب الحذاء: الخطف والفدية، سرقة ونهب البيوت، القصف العشوائي، القتل على الهوية، الرشى لتهريب الشياطين والقنابل...
ولأنّ الأزمة، باعتراف الجميع، دولية أيضاً بامتياز، فإن كل التقديرات حول نهايتها لا تصل إلى نتيجة. ذلك لأنه على الأرض لم يقتنع أي طرف بإفلاسه العسكري بعد، ولأنّ حماة ورعاة الطرفين من الخارج، لم يقتنعوا بعد بضرورة إغلاق الحنفية لتعطيش المتقاتلين كي يذهبوا، معاً، إلى نبع مشترك.
وبالعودة إلى ياسر عرفات الذي غادر هذه الدنيا آسفاً، حيث غابة البنادق أدت إلى ضرورة الحصول على فيزا لدخول أهل الضفة الغربية إلى غزة والعكس. بالعودة إليه... كسوري يرى ما يحدث، نتيجة الافتخار العجيب بغابة البنادق، فإنّ السوريين ينتحرون بأسبابهم المختلفة. ليست غابة البنادق هي الجيش الحرّ ولا العصابات المسلحة، ولا قطاع الطرق، ولا السلطة والأمن، ولا الشبيحة من كل الأصناف... بل هي كلها عوسجة. وهذا سيّئ بالطبع، لكن الأسوأ هو اعتقاد قادة المعارضة بأنّ بلداً تحرره غابة بنادق من هذا النوع سيكون بلداً ديموقراطياً، تعددياً، مدنياً! أما ما هو بالغ السوء، فهو ذلك النوع الفادح من سوء التقدير الذي يقوم به قادة المعارضة، المدنية والعسكرية. سوء تقدير يبدأ من التورط في التطرف، ويصل إلى توريط الناس بوعود وتوقيتات حسم افتراضي يجعل القتال مياومة غير قابلة للنهاية. وبطبيعة الحال، السلطة في تقديراتها أسوأ من المعارضة. فالنصر هنا أسوأ/ الهزيمة، والخسائر من النوع الذي لا يمكن تقدير فداحتها، فهي ليست أرقاماً... بل أرواح وجراح!
غابة بنادق، وهذا أمر من الواضح أنه مقدور عليه. أما حوار حفريات الخنادق، وحوار سلسلة الفنادق، وهو الأسهل، فلماذا كان ويكون وسيكون بمثل هذه الصعوبة؟! فقد كان متوقعاً أن يشتعل الذكاء السوري لإنارة الطريق. سأجيب عن ذلك في مقال لاحق... إن
عشنا!
* شاعر وروائي سوري