الاحتجاج في الساحة العامة دفاعاً عن الحقيقة، هو مهمّة المثقّف الحديثة. ليست الحقيقة المطلقة من الإنسان، بل الحقيقة المتلبّسة بالإنسان وحقوقه وما يتعرّض له فرداً وجماعة من ظلم وتعسّف واستلاب لحريّته. هذه المهمّة هي التي ما زال المثقّف الخليجي عاجزاً عن القيام بها. فالقيام بهذه المهمّة عقبها تجريده من مكرمات السلطة التي اعتاد على أبوّتها وعطاياها. لم تكن صرخة نذير الماجد «أنا أحتج» غير ممارسة احتجاجية ضدّ سلطة لا تعترف بالإنسان وحقّه في الاحتجاج. الاحتجاج هو فعل ضدّ الهراء، الهراء الذي جعل بورديو مقاومته مهمّة من مهمات المثقّف. إنه هراء السلطة سواء السلطة السياسية أو الاجتماعية أو الدينية، كل منها تعمل على منع احتجاج كل خطاب لا يتطابق مع هرائها. كان نذير يمارس احتجاجه بالكلمات، ضدّ هذه السلطات الثلاث، يحاول أن يوسّع حريّة القول الذي تضيّقه هذه السلطات. حين كان محقّق السلطة يريد أن يُرجعه لطائفته، كي يحوّل تشيُّعه إلى تهمة، كان نذير يُرجعه إلى انتمائه الإنساني العابر لكل الطوائف والأديان.

وحين لم يجد في جوابه ما يثبت به تهمته، اتخذ من اسم أمّه (خاتون) دليلاً دامغاً على تشيُّعه وولائه لإيران. كانت أدلّة الإدانة: اسم الأم، قضاء شهر العسل في شمال إيران، مقالات نقدية ضدّ الهراء، شهادة عيان لـ«رويترز» عن احتجاجات الناس في الشارع العام.
لقد دفع نذير ثمن احتجاجه (أنا أحتج) وستغدو هذه المقالة جزءاً من تاريخ الحرية والاحتجاج ضد هراء تعلّق المثقفين البارد واستبداد السلطة السياسية التي يدورون في فلك مصلحتها «لذلك، سأقول متجاسراً وعيني على الشارع بأنّ المطلب الأساسي الأول في كل دولة متسلطة هو ترسيخ ثقافة التظاهر، وإشاعة ثقافة «المخاطرة» في اللحظات الخاطفة التي نسمّيها أزمات، وكل أزمة هي لحظة ضبابية، لحظة منعشة لحسِّ المغامرة، لحظة مواتية لكسر الرتابة السياسية والولوج في المجهول، لحظة غامضة، لا». إنّها الجسارة، جسارة المعرفة وجسارة الموقف، وقد جمعهما نذير معاً في قلبه، وراح يبحث عن لحظة ضوء في جدار الدكتاتورية التي هي خصم عنيد لأي ضوء يأتي من خارجها.
في لحظة الربيع العربي، كان الخصم واضحاً. الخصم الذي يخنق الاحتجاج والقول. إنّها الدكتاتورية في شيخوختها العنيدة، وجد فيها نذير ما تجده الفراشة في الضوء، الجسارة على الاقتراب من الضوء المميت حيث الشارع وشمسه الحارقة الكاشفة لا المخابئ السرية ولا الكلمات المواربة المغلفة بالتعقّل والهدوء.
المثقّف في الخليج (المثقفون العرب)، لا المثقّف الخليجي فقط، يخاف جسارة الاقتراب من الضوء، يتحدّث عن التنوير، لكن كلماته تبقى في الظلام، ظلام الخوف والمواربة حيث ظلُّ السلطان. لم يفتح مثقّف في الخليج ساحة عامّة، ولم يوسّع ميداناً عاماً مشتركاً لقولٍ حر ضدّ السلطة. ظلّ هذا المثقف أداة السلطة لتضييق الساحات العامّة وخنق فعل الاحتجاج فيها. سنعجز عن تعداد أسماء المثقفين الخليجيين الذين برّروا للسلطة هدم ميدان اللؤلؤة. وسنعجز عن أرشفة خطاباتهم ضدّ فعل الاحتجاج في هذا الميدان الذي صنعته أشواق الناس للحرية والكرامة والمساواة. كان قلب نذير معلّقاً بهذا الميدان، وهو يكتب (أنا أحتج) كان مأخوذاً بفعل الاحتجاج في هذا الميدان، ويجده فاتحة حريّة لميادين أخرى في الخليج.
لم يتوقّف نذير وهو بالسجن عن فعل «الاحتجاج» وتذكير ذاته الثقافية بالقيام بهذه المهمّة، كتب مستخدماً ورق القصدير قلماً، وفلّين الطعام صفحة، كتب شعار عالمه الذي يعيشه في قلبه وعقله «أنا عالم والآخرون هراء».
الآخرون بالنسبة إلى نذير هم هذه السلطات التي تحبس الحرية، فهمت السلطة السياسية أنّها «الهراء» المقصود، فضاعفت سجنه الانفرادي من شهرين ونصف لتصبح خمسة أشهر. وجدت أن تحدّي نذير لهرائها، جرأة تنذر بذهاب هيبتها، فنكّلت به. ظلّ نذير يمارس احتجاجه بالكلمات، لكنها ليست الكلمات المعمّدة بالمغمّات التي تجد فيها السلطة منجاتها. إنها كلمات الاحتجاج التي توسّع ميادين الحرية وتضيّق مساحات الهيمنة والدكتاتورية.
أُخذ نذير من مكان عمله في 13 نيسان (أبريل) 2011، وصودرت أجهزته الإلكترونية، وتعرّض للضرب والركل والتوقيف لساعاتٍ طويلة، والحطّ من كرامته الإنسانية، وظل في الحبس الانفرادي خمسة أشهر قبل أن يُنقَل إلى زنازين تجّار المخدّرات والأسلحة. لم تتمكّن زوجته من رؤيته إلا في كانون الثاني (يناير) الماضي.
هذا الكتاب هو صحيفة اتهام نذير، وهذا هو خطابه الاحتجاجي. هو هناك في قبضة الدكتاتورية، يكسر صمت سجنه بما يكتبه بقلم القصدير في أوراق الفلّين، ويُغالب الوقت بإرجاع الأشياء إلى بساطتها الأولى (يُرجع ورق الشاي إلى مكوّناته الأولى ويصنع منها أشياء جديدة)، كي يفهم هذا الهراء المركّب من عقد السلطة. تنتظره زوجته خديجة وهي تتحدث للمنظمات الحقوقية العالمية بجرأة الواثق من احتجاج زوجها، وينتظره هاشم، الابن الذي سيجد في سيرة أبيه ما يحكيه للعالم عن هراء السلطة، وورد التي لم تتعرّف إلى ملامح أبيها في سجنه.
الحرية لك يا صديقي
بيروت ـــ 28 أيار (مايو) 2011
* كاتب وناشط بحريني