القدس المحتلة | لا يحدث كثيراً أن يتلقّى المرء دعوة من مجموعة مسرحية جديدة تعلن نفسَها في فلسطين. الحياة المسرحية هنا راكدة كالحياة السياسية (ولا يستغرب أن يكون عملها الأول مسرحية لصموئيل بيكيت). قد يكون المسرح أكثر المتضررين بين الفنون من المآلات المعروفة التي وصلتها الحياة في فلسطين المحتلة. مآلات ضرب المجتمع وثقافته وتحويله في العقدين الأخيرين إلى «تجمّعات سكانية» محاصرة ومعزولة عن بعضها وعن بقية العالم. «محميّات سكان أصليين» مدججة بقوى بوليس محلّية متغوّلة وعنف استعماري يتداوله سكان «المحميّات» من دون أن يستطيعوا رده إلى مستعمِرهم. فيما يستفرد المشروع الاستعماري بالأرض وتحريك اللعبة السياسية، ويحاول الاستفراد بمخيلة المستعمَرين وروايتهم وفكرتهم عن أنفسهم.
لم نذهب إلى عرض «الكارثة... لا أعرف» (نص صموئيل بيكيت «الكارثة» وقصيدة «لا أعرف الشخص الغريب» لمحمود درويش) بلا توقعات. كون مُخرج المسرحية وأحد ممثليها الثلاثة عيد عزيز (1980) متخرّجاً حديثاً من «المعهد العالي للفنون المسرحية» في دمشق، جعلنا نرفع سقف التوقّع من مجموعة «غوته استوديو لفنون الأداء» التي قدّمت مسرحيتها في بيت لحم والخليل ونابلس ورام الله.
بدا العمل معقولاً رغم التفاوت في قدرات ممثليه بشكل خاص. يبدأ العرض (لا يتجاوز نصف ساعة) بنص «الكارثة» لبيكيت. ثم يتحول في نصفه الثاني إلى ما يشبه المونودراما، حين يكمل عيد عزيز من دون زميلتيه (رهام إسحق وميرنا سخلة) مع قصيدة درويش. بدا لنا العرض مونودراما أساساً ونصفه الأول كأنّه مقدّمة للمونودراما ويمكن الاستغناء عنه.
رغم ذلك، لا تخفى جدية المحاولة وامتلاك العمل لجملة أدوات العرض المسرحي. لكنّ العرض في النهاية ليس الأدوات. وهنا لا بد من الإشارة إلى مأخذين شابا ــ برأينا ــ مجموعة «غوته» وعرضها الأول. بداية لا بد من الإشارة إلى أنّ اسم المجموعة «غوته» لا علاقة لها بشاعر ألمانيا، كما قد يبدو للوهلة الأولى. إنما GOTE هي طريقة تدريب ممثل للمسرحي الأميركي روبرت كوهين اختصاراً لـ«هدف، حاجز، تكتيك، توقّعات» (Goal Obstacle, Tactics, and Expectations).
لم نجد في اختيار اسم أجنبي لفرقة عربية تعمل في فلسطين وتقدّم عملها الأول بالعربية الفصحى أكثر من اغتراب سطحي لا يشفع له الافتتان بطريقة كوهين. اللغة الانكليزية في فلسطين ليست لغة عمل ثقافي بقدر ما هي «لغة مؤسسات» وفق نسخة ما بعد أوسلو... بدءاً من مؤسسات الإغاثة إلى مؤسسات مجتمع مدني غربية المراجع وقليلة الإحساس بمجتمعها. يكشف الاسم عن مجاراة غير مفهومة لسطوة المفردة الأجنبية والرغبة في لفت نظر الخارج الأجنبي وانكماش الإحساس بالذات (أو على الأقل هذا ما يمكن أن يوحي خطأ). ليس ثمة ثقافة فرنكوفونية أو أنغلوفونية ينضوي فيها أعضاء الفرقة بما يبرر استعمالهم اسماً أجنبياً، وليس لديهم شركاء كوكبيون بما يستدعي استعمال لغة مشتركة قد تكون الإنكليزية. إن اللغة في واقع استعماري يعمل على محو الهوية هي أكثر من لغة، إنها موقف. وبالتالي فخيار لغوي من وزن اختيار اسم فرقة لا يمكن عدّه شيئاً هامشياً. ولعل الفرصة ما زالت متاحة أمام المجموعة لإعادة النظر في اسم الفرقة بل توجّهها والأسئلة المسرحية والمجتمعية/ السياسية التي تطرحها على نفسها وعلى مجتمعها.
المأخذ الآخر يتعلّق بما يمكن تسميته «أدبية» العرض المسرحي. نلحظ انحساراً في العمل الأدبي، أي النصين المشكَّلين للمسرحية (نص بيكيت ونص درويش)، على حساب بقية عناصر المسرحية. لم نستطع طرد الإحساس بطغيان اللغة الأدبية على لغة العرض المسرحي. طغيان الكلام على الصورة وطغيان النص على الأداء. «أبو الفنون» بدا بطركاً يدلل ابنه الكبير؛ النص.
من جهة أخرى، نفهم الغواية التي يمارسها مسرح العبث على عشّاق العمل المسرحي في بدايات عملهم (لنلاحظ النسبة المرتفعة لمسرحيات العبث وخصوصاً بيكيت بين أعمال طلاب ومهرجانات المسرح الجامعي). كذلك نفهم القوة التحريرية الكامنة في مسرح العبث، لكنّنا في المقابل نشعر بمحدودية ممكناته والمدرسيّة التي يمكن أن يقع فيها عربياً حين يُسقَط على سياقات تاريخية واجتماعية نرى أنها تستدعي وتحتمل صيغاً أخرى أكثر تأثيراً وأكثر تحقيقاً لحرية الفنان.
لا يخفى على المشتغلين في المسرح، وحتى على جمهوره، أنّ نصوصاً معينة وكتاباً معينين أصبحوا من «الجواهز» أو «الحواضر». وليس سرّاً أن نصوص بيكيت ــ على عظمتها ــ باتت من هذه «الحواضر». ولعل الكلام ينطبق أيضاً على نصوص محمود درويش مُمسرحة ومغنّاة ومرسومة وحتّى مستعملةً في حملة لشركة اتصالات خليوية. فيما لا نكاد نسمع عن مجموعة تجرؤ على استعادة أعمال كاتب مسرحي رائد مثل سعيد تقي الدين أو حتى استعادة كاتب مسرحي تتكشف أهميته يوماً بعد يوم مثل الطيّب الذكر والأثر ممدوح عدوان.