خشية السينمائي لويس بونويل (1900ـــ1983) من الذكريات الزائفة التي تصبح لفرط تكرارها حقائق مؤكدة، وضعته أمام امتحان قاسٍ خلال كتابة مذكراته «أنفاسي الأخيرة» (وزارة الثقافة، دمشق ــ ترجمة مروان حداد)، ذلك أنّ «نسيانات كثيرة» قد تعطب الذاكرة في العمر المتأخر. «أريد أن أبدأ، وأنا لا أزال أتذكّر كل شيء، لأن معظم المؤلفات تُكتب حين لا يتذكّر مؤلفوها شيئاً». هكذا يسلك المعلّم الإسباني طريق روايات الصعاليك «تاركاً لنفسي الانسياق وراء إغواء لا يقاوم في رواية الحكاية غير المتوقّعة». يفتتح صاحب «كلب أندلسي» مذكّراته بصورة أمه في سنواتها الأخيرة، حين لم تعد تتعرّف إلى أبنائها، قبل أن يستعيد حياته في قرية تعيش طقوس القرون الوسطى وتابوهاتها المقدّسة. لكن اشتعال الحرب العالمية الأولى، أطاح البراءة القروية التي كانت تعيشها سرقسطة. لم يجد بونويل نفسه في دراسة الهندسة الزراعية، فانتقل إلى التاريخ. ذكرياته الممتعة تبدأ من أسوار المدينة الجامعية في مدريد (1917ــ 1925). في هذه الفترة، تعرّف إلى أروع أصدقائه الذين سيشكلون لاحقاً طليعة المثقفين الإسبان: لوركا، ألبرتي، خوان رامون خمينيث، سلفادور دالي. يتذكّر لوركا كصديق مقرّب «بدأت صداقتنا العميقة منذ لقائنا الأول.
على رغم التناقض الذي كان قائماً بيننا: الأرغوني الفظ، والأندلسي الصافي. وربما بسبب هذا التناقض نفسه، كنّا نتواجد معاً بصورة شبه دائمة». في باريس (1925ــ 1929) تعرّف إلى السورياليين، وأنجز فيلمه الأول «كلب أندلسي» (1929) مع سلفادور دالي، ثم امتدت صداقاته لتشمل أراغون، وإيلوار، ورينيه شار، ورينيه ماغريت. شعار السريالية «الفضيحة كسلاح فعّال في تغيير العالم» لاقى هوىً لديه، فانتسب ببساطة إلى هذه الورشة الباريسية المتمرّدة.
يستغرب صاحب «ذلك الشيء الغامض للرغبة» مجيئه إلى السينما. لم يخطر في باله يوماً أن يقف وراء الكاميرا. كان والده يراها «لعبة مشعوذين». أما أمه، فأُصيبت بحالة أسى لمصير ابنها. في أميركا، حقّق مجموعة من الأفلام في هوليوود، وسط مصاعب كبيرة، انتهت به إلى المكسيك (1946 ــ1961). لا يرغب بونويل في استعراض محطات مهنته كسينمائي بقدر شغفه في سرد تفاصيل حياته الصاخبة. يخصّص فصلاً للحانات والمقاهي التي كان يرتادها في مدريد وباريس ونيويورك، ويصف هذه الأماكن بالصديق القديم، مستعرضاً علاقته المحمومة بالكحول والتبغ. يتوقف عند أحلام اليقظة «هذا الجنون الخاص بالأحلام (...) يشكّل إحدى النزعات الدفينة التي قرّبتني من السريالية». لا يتردد صاحب «حسناء النهر» في هتك أسراره الغرامية، وسطوة الرغبة الجنسية على مشاعره، وخيباته مع النساء. الحرب الأهلية الإسبانية، ومصرع لوركا فيها، مفصلان أساسيان في ذكرياته، تركا جرحاً عميقاً في روحه. في فصل «مع وضد» يذكر بونويل بصراحة، ما يحب، وما يكره: «عبدتُ فاغنر واستخدمت موسيقاه في عدة أفلام» و«لا أحب العميان كثيراً، ومن بين كل عميان العالم هناك واحد لا أستلطفه هو بورخيس، إنه كاتب جيد دون شك لكنه متغطرس». ويضيف إلى القائمة «أكره شتاينبك حتى الموت، وكذلك دوس باسوس وهمنغواي، لولا المدافع الأميركية لما كانوا شيئاً، إنها سلطة البلد هي التي تقرر مسألة الكتّاب العظام».