لم تعتد السينما اللبنانية الأفلام النفسية المركّبة كـ A Play Entitled Sehnsucht الذي قدّمه بدران روي بدران. هذه الأفلام لا تعتمد على نقل الحالة النفسية والصراع داخل النفس البشرية إلى المشاهد فحسب، بل تسحبه ببساطة ليكون جزءاً من هذا الصراع. هكذا، يعيش توتر الأحداث ويشارك الممثلين انفعالاتهم، فتكون النتيجة متطرفة بين من أحبّ الفيلم كثيراً، ومَن كرهه كثيراً.
ما الذي تعنيه الحرب في فكر فيلسوف وعالم ومثقف؟ وكيف يتجلى الصراع في وعي هؤلاء وفي لاوعيهم؟ كيف تتبلور هواجسهم؟ كيف تتضارب مشاعرهم وأفكارهم؟ في «مسرحية عنوانها الشوق» الذي عُرض أخيراً في «متروبوليس أمبير صوفيل»، أخذنا المخرج اللبناني في رحلة سريالية مع طبيب ألماني يأتي إلى لبنان ليرى مريضه الأول الذي سيصبح الأخير، وهو عالم فلك اسمه برنار زيدان، أصيب بالجنون بعدما ألّف عدداً من الكتب الفلكية، وقال للجميع إنّه شهد لحظة انفجار الكوكب. اختار المخرج عالم الفلك لأنه يمثّل المثقف والعالم والفيلسوف في الوقت نفسه. واختار الكوكب لأنه يمثّل كل ثابت وفضاء الإنسان. انفجار الكوكب عام 1975، وما يمثله ذلك التاريخ من بداية للحرب الأهلية اللبنانية، يُطلق الصراعات النفسية في نفس عالم الفلك، عاكساً بذلك التوتر والضيق الذي ساد تلك المرحلة وصراع الأفكار بن المثقفين والفلاسفة ورجال الأمر الواقع.
لوهلة، نجد أنّ المخرج الشاب (1983) متأثر جداً بمارتن سكورسيزي. للحظة، نجدنا أمام قصة مبنية على أسلوب فيلم Shutter Island الشهير الذي أدى بطولته ليوناردو دي كابريو، أكان على صعيد نمط الفيلم أم بطء أحداثه، وتحديداً اضطرار المشاهد إلى متابعته حتى نهايته كي يبدأ بربط الأفكار وفهم ما الذي يحدث تحديداً. غير أنّه على عكس أسلوب السينمائي الأميركي، لم يذهب بدران إلى النهاية المفتوحة، ما يتطلب جرأة كبيرة في أفلام مماثلة. بل قرر أن تكون نهاية العمل مفتاحاً لفهم بدايته كي لا يتهم بالعبث.
لكن المشكلة أنّه قرر الخروج عن العناصر التقليدية، فلا دور أساسياً للممثلين مع كريستيان غازي (برنار)، وغلاني فاو (الدكتور الألماني) وأنطوني معلوف (المهرّج الذي يمثل الناحية الطفولية والبراءة في دماغ برنار). في النهاية، إنّهم ممثلون بلا بطولة، فالشخصية الطاغية هي راوي الفيلم من خلال الـ voice over للطبيب الألماني الذي قلّما يظهر كممثل في الفيلم. وعملية «توريط المشاهد» تظهر جلية في لعبة الـ Voice over؛ فالكلمات التي يتلوها الطبيب على برنار تظهر كأنّها موجهة إلى المشاهد الذي يصبح شريكاً في اللعبة ومأخوذاً بتفاصيلها.
من ناحية التصوير، قرّر المخرج المقيم في ألمانيا تحميل صورته بعداً فكرياً من خلال استخدام الإضاءة الخافتة والتركيز على الكادرات الضيقة لينقل الشعور بالتوتر والضيق إلى المشاهد وإشراكه في لعبة الصراع الداخلي تحديداً، عندما يدخل الطبيب إلى لاوعي برنار. لكنّ التصوير نفسه وطريقته النمطية يؤديان إلى الإحساس بأنّ أحداث الفيلم بطيئة حتى الرتابة. أما أولئك الشغوفون بالأفلام السريالية، فلا بد من أن يشعرهم العمل بمتعة قلما يجدونها في الأفلام اللبنانية. لم يعالج أحد الحرب اللبنانية من هذه الزاوية قبلاً، ولم يجرؤ مخرج على تقديم فيلم مغامر كبدران روي بدران.
الفيلم الذي أُنجز بالألمانية والإنكليزية يأتي في 70 دقيقة كانت كفيلة بتقديم نموذج جديد من الأفلام اللبنانية، قد لا يستسيغه بعضهم، لكنّه يمثل تجربة جدية في عملية التجديد السينمائي اللبناني، فهل يبرز اسم بدران روي بدران في أفلام جديدة يصقل فيها تجربته وينقّيها من شوائب الرتابة والملل ويعمل أكثر على إبراز دور الممثلين بما يخدم قصته؟ المستقبل فرصته لإثبات ذاته.