هل يمكن مقاربة صوت مرسيل خليفة وعوده بحيادية وبرودة نقدية؟ أنّى ذلك وحنجرته تختزل حناجرنا وريشته تنقر على الوتر والذاكرة، وجرح جماعي يتفتّح كلّما توهّمنا أنّه قارب البُرْء؟ حين تعيد سماع «في البال أغنية» ومقدّمة «ريتا» بتوزيع جديد ضمن ألبومه «سقوط القمر»، تحنّ إلى ما لم يعد ممكناً، وتحلم بإمكان حدوثه.
يعيدك «سقوط القمر» إلى مرحلة زاخرة بأحلام باهظة ومجنّحة بحجم الحياة، بحجم وطن معلّق إلى أجل غير مسمّى، بحجم عالم عربي حائر ومنهك مثلنا جميعاً، رغم جرعة تفاؤل أنعشتنا بعد ثورتَيْ تونس ومصر (لعلّهما تبدآن الآن)... بحجم بحيرات الدم في مدننا المفتوحة، وملايين العيون الجائعة إلى الحبّ والحرّية، بحجم غيفارا ومحمود درويش. «تذكّر، لتكبرَ، نفْسك قبل الهباء/ تذكّر أصابعك العشر (...)/ تذكّر بلادك وانسَ السماء». ترى هل يمثّل ألبوم مرسيل خليفة الجديد دعوة إلى التذكّر والانتماء والتحرّر في ظلّ تأزّم الوعي الثوري والثقافي العربي؟ لعلّه لا يكتنف تحية إلى صاحب «أحد عشر كوكباً» فحسب، بل أيضاً إلى حقبة غذّت وعي خليفة وانعكست في أعماله.
إعادة توزيع مرسيل لبعض أغنياته تعكس اليوم رغبة مزدوجة: تجديد علاقته بشعر محمود درويش بعد رحيله، وتجديد علاقته بجمهور فتنتْه تلك «التوأمة الفنّية» منذ «وعود من العاصفة» (1976). لا شكّ في أنّ خليفة يجنح أيضاً نحو تجديد علاقته بنصّه الموسيقي، وتجديد بعض أدوات التأليف الموسيقي العربي، محاولاً العثور على صوت مغاير على الصعيد التقني، أو على مستوى الأداء.
في المقابل، يفاجئك الفنّان الستينيّ المتمرّد أحياناً بأسلوب توزيع متقشّف نوعاً ما، يرتكز نسبياً على «هوموفونيا» في الغناء تطغى على التعدّد النغمي، ما يحيلك على منهجية موسيقية دمغت بعض ملامح تجربته، ما يتبدّى في أغنية «عيناها» التي يختمها بجملة لحنية متكرّرة تُشابه أغنية «دقّة ودقّة مشينا» لزكي ناصيف، تتخلّلها تنويعات وتقاسيم حديثة. موسيقى مرسيل التي يخالها كثيرون ورديةً ومتقطّرة، لا تخلو من تصعيد وتدفّق أوركستراليين يختزنان شحنة تعبيرية تتقمّص روح الشرق، وتلامس أحياناً المدرسة الروسية أسلوباً، ما نتلمّسه في مقاطع مقطوعة «سقوط القمر» التي تحمل بعداً مشهدياً، و«موّال فلسطيني» حيث يجسّد خليفة الضرْب بالخناجر عبر قرقعة إيقاعية تكتسي طابعاً ملحمياً تراجيدياً.
العمل الذي يتألّف من أسطوانتين شاركت في تنفيذهما «أوركسترا كييف الفلهارمونية» بقيادة فلاديمير سيرينكو، و«فرقة الميادين» التي تضمّ رامي خليفة (بيانو)، وإسماعيل لومانوفسكي (كلارينيت)، وأنتوني ميليه (أكورديون)، ومحمود تركماني (غيتار)، وبيتر هربرت (كونترباص)، وبشار خليفة (إيقاع)، وأميمة الخليل ويولا خليفة (غناء)... يجمع بين التقاسيم المُرسلة والموقَّعة والموسيقى المقَوْلبة، ويتلفّف بالتراث المشرقي العربي معدَّلاً (محطّة «طوق الحمامة الدمشقي» المنسوجة على نول «يا ليل الصبّ»)، والموسيقى الكلاسيكية الغربية، والحداثية، والمعاصرة، والمقامات العربية منصهرةً أحياناً في هارموني حديثة ونظام «تونالي» tonal، مع مراعاة خصوصية الموسيقى العربية. لعلّ خليفة عمد أحياناً إلى إنقاص جرعة التجريب والدمج بين الموروث العربي والنسيج البوليفوني الغربي في «سقوط القمر»، فيما بدا المزيج أكثر بروزاً في محطّات مشابهة («يا ليل الصبّ») تخلّلت «كونشرتو الأندلس». السلّم الخماسي، وتَرقرُق الـarpèges (نوتات متعاقبة تمثّل ائتلافاً تناغمياً) على البيانو، أعطيا مقطوعة «سرير الغريبة» طابعاً انطباعياً (جزئياً) يذكّرك بالمدرسة الانطباعية الفرنسية، فيما تحيلك أغنية «يطير الحمام» على «يا بنات إسكندرية» و«قومي طْلَعي عَ البال». وكعادتها، أجادت أميمة الخليل في تأدية أغنية «محمّد» بصوت عارٍ يجيد مرسيل استثماره درامياً في مجال الغناء المنفرد.
العمل الذي يحوي 18 محطة غنائية وموسيقية، يجمع إذاً بين قديم خليفة وجديده، ويمثّل استكمالاً لتجربة فريدة مثّلت ظاهرة من المحيط إلى الخليج. لا شكّ في أنّ مرسيل أفاد من شعر درويش والعكس صحيح. ينمّ «سقوط القمر» عن ترسّخ علاقة تفاعلية بين شاعر قلَبَ مفهوم الالتزام في الشعر والنثر، وفنّان علّم جمهوره أنّ الالتزام يكمن أيضاً في موسيقى خالصة («جدل»...)، وأغنية عاطفية (يطير الحمام). كلّما ابتعد خليفة عن درويش قليلاً، عاد إليه. هل القضية والكلمة والفنّ والإنسان والحبّ ما يجمعهما فقط، أم حالة فاقتْهما؟ المؤكّد أنّ إعادة نسج درويش للذاكرة والوجود بخيوط الشعر، وأسلوب خليفة في مَوْسَقتهما، يُعلّقاننا بهما اليوم أكثر من أيّ وقت مضى، كأنّنا نتمرأى في أغنية عشّشت في وجدان عربي سَكَنها، واختصرت وجوهنا وحيواتنا الهاربة.



في حضرة الغياب

للمرة الأولى، يقول مرسيل خليفة إنه وجد صعوبة في تلحين قصائد محمود درويش التي انتقاها لألبومه الجديد «سقوط القمر». لماذا؟ «لأن محمود مش موجود». يرى المغني اللبناني أن موسقةَ قصائد درويش في غيابه «تلقي عليّ مسؤولية مضاعفة» على الرغم من أن تجربته مع صاحب «عاشق من فلسطين» تمتد إلى أكثر من 30 عاماً.