القاهرة | مع استمرار توحّش الغول الرأسمالي، وامتداد أذرعه لتطال كل الأشياء في الحياة والأجواء المحيطة وتحولها إلى كيانات متصنّعة ومُبتذلة أشبه بالحليّ المُقلَّد، يحتفظ أنصار الروح الحقيقية والنظرة العميقة بما تبقّى من جمال المعنى في ما خُطّ في كفوف أصحاب البصيرة... أولئك الذين ارتشفوا آخر قطرات كأس الحقيقة الملاصقة للشعور بعيداً عن ماديّات العصر.
وفي زمن تحوّلت فيه الأشياء إلى سلع، حتى الأدب والفن، في ذلك الزمن وهذا العام تحديداً يكون العمّ فؤاد حدّاد أو كما يلقّبه المصريون «مولانا» قد أكمل عامه الثلاثين غائباً بجسده عن عالمنا الذي تغيّر كثيراً منذ أن تركه: «المَطرقة ناحت على السندان/ اتقسّمت كُتَل الحديد قضبان/ الرأسمالي بيملُك الآلة/ الرأسمالي بيسجن الإنسان/ أغلال على استغلال على بطالة/ يجعل حياتك يا فقير.. عالة/ ويموّتك، ويبيع لَك الأكفان».
في الأسطر السبعة السابقة، استطاع «مولانا» أن يلخّص الفكرة الرأسمالية بتوحّشها وامتدادها المريب في ألفاظ عاميّة مصريّة بسيطة للغاية. من يقرأها أو تقع على مسمعه، مهما كانت ثقافته وتعليمه، يستطيع أن يهضم ما استفاضت في شرحه مجلّدات وكُتب وندوات وحراكات اجتماعية لا تنتهي. ولعل اختلاف حدّاد عمن حوله ومن سبقوه في تعبيره عن تلك الميول يأتي من اعتناقه لكل انتماءاته بمحض إرادته الحرّة. لم تجبره نشأة اجتماعيّة على فكرة، ولم يحمله وضع اجتماعي على انتماء محدد ولا عقيدة بعينها.
برغم أنّ أباه سليم بك حدّاد كان أستاذاً للتجارة في «جامعة الملك فؤاد الأول» في مصر، إلا أنّ الابن فؤاد كان اشتراكيّ الهوى وشيوعيّ الروح. ورغم أنه نجل العائلة المَسيحيّة المحافظة، إلا أنه اختار الإسلام بمحض إرادته، ثقافة وديناً ومنهجاً فكرياً. اختار الدين بفكرته الثقافية المسالمة المتأمّلة، ربما بالإضافة إلى إلمامه وإيمانه العميق بالفلسفة والفكرة الإسلاميّة. جاء إشهاره لذلك استكمالاً للتمرّد على النشأة التي قرر مولانا أن يعيد ترتيبها بداخله ليصبح إنساناً آخر غير الذين أراده السالفون أن يكون. واستمراراً للخروج عن تلك القوالب السالفة، اختار حدّاد بمحض إرادته أن يكون مصريّاً عربيّاً بكُل ما تحمل تلك التركيبة من معانٍ. فؤاد نجل البيك اللبناني البروتستاتني والسيّدة السوريّة الكاثوليكيّة قرر أن يصبح يساريّاً مصرياً قوميّاً مسلماً. وقد كان لتلك التركيبة المتمرّدة أن تُخلّدها التجربة وتعيش في الوجدان باللفظ والكلمة والمَعنى والفلسفة، ليس فقط كونها نابعة من قلب من صاغها، بل أيضاً لأنها بُنيَت باليد والعقل والقلب. لم تكن شكلاً بل مضموناً وثقافة وطريقة عَيش انتهجها حدّاد منذ ريعان شبابه وحتّى فارق عالمنا.

أسهم في بناء الوعي
المصري عبر برنامجه الإذاعي


تعددت أعمال صاحب «الحضرة الذكيّة» بين دواوين وأغانٍ وبرامج إذاعيّة وأوبريتات. من أشهر دواوينه «المسحّراتي» و«الحضرة الذكيّة».
بالإضافة إلى الدواوين، أسهم حداد في بناء الوعي المصري بإبداع منقطع النظير من خلال برنامجه الإذاعيّ «من نور الخيال وصُنع الأجيال» الذي كان يتحدث عن تاريخ القاهرة من منظور تاريخي. كان البرنامج يبث على إذاعة الجمهوريّة العربيّة المتّحدة «مصر ــ سورية» خلال فترة الوحدة العربيّة ليبدأ بأغنيّة يشدو بها رفيقه الشيخ سيّد مكاوي، يفتتح بها كل حلقة في البرنامج، قائلاً: «أول كلامي سلام، وتزققيني الكلام، أيام في حضنك أنام، في القلب الابيض هنا، يا مصر يا أمّنا». وكانت السلسلة الإذاعيّة تلك تأتي في هيئة غناء من الشيخ سيد مكاوي لقصيدة حداد التي تتحدث في كل حلقة عن حقبة وحدث بعينهما، ثم إلقاء لبقيّة القصيدة على لسان فنانين عديدين أبرزهم الفنّانة القديرة سهير المرشدي.
بعيداً عن القضايا الوطنيّة والسياسيّة التي تناولها حداد بمنظور مختلف وبديع، إلا أنه أيضاً استطاع باقتدار أن يقتنص لقب «فيلسوف العاميّة المصريّة» إلى جانب الراحل صلاح جاهين، من خلال قدرته المختلفة على تناول القضايا الفلسفيّة والجدل العميق من خلال ألفاظ وتعبيرات غاية في البساطة والوضوح، والفصاحة في الوقت عينه.
وقد تجلّت تلك الأشعار الفلسفية بشكل واضح على صفحات ديوانه «أيّام العجب والموت» الذي عبّر فيه عن متلازمة الموت والحياة، وجهيّ العملة المتضادين المتشابهين في الوقت عينه. بدأ الأمر حين فتح صفحة الجريدة في الصباح، فوجد اسم صديقه جودة سعيد الديب، ليبدأ قصيدته قائلاً: «آدي أيّام العجب والموت، جت بسرعة زي غمضة عين». ويختتم مقطعها الأول قائلاً: «وانتبه من نومي واسمع نَعي، الزميل جودة سعيد الديب، اسمه بالكامل يا فَجر الطيب، اللي ضاعت منه أيامي، وآدي أيّام العجَب والموت».
كان لحداد ملمسه للكلمة والحرف والأسلوب حتى في الحديث عن الموت، وعن الحب والحياة والوطن. الوطن الذي اختاره بمحض إرادته ليحيا ويموت فيه وينشئ أبنائه على ترابه بالعشق والنظرة نفسيهما. هكذا، امتدت جذور وفروع شجرة حدّاد التي جاءت من الشام لتضيء مصر قلباً وعقلاً وتاريخاً.