على غرار زكريا تامر الذي جاء إلى الكتابة من معمل الحدادة، غادر ياسين رفاعية (1934) الفرن الذي كان يعمل فيه، لينخرط في كتابة القصة، ثم الرواية. على مدى عشرين عاماً (1960 ــــ1980) أنجز الكاتب السوري خمس مجموعات قصصية، هي: «الحزن في كل مكان»، و«العالم يغرق»، و«الرجال الخطرون»، و«نهر حنان»، و«العصافير». وقد جمعها أخيراً في مجلدٍ واحد بعنوان «قصصي ـــ الأعمال الكاملة» (دار جداول ـــ بيروت). المسافة طويلة بين بداياته ونهاياته لجهة تقنيات السرد واقتناص موضوعاته. الحكاية في الأعمال الأولى لصاحب «مصرع ألماس» مغرقة في واقعية خشنة عن عزلة الكائن البشري وبؤسه. أشخاص هامشيون وبسطاء في شوارع تضج بالحياة، لا يجدون مكاناً لهم وسط الجموع، بأحلام مؤجلة يصعب تحقيقها. هكذا تتكرر مفردات مثل: القسوة والفجيعة والعدم والموت والمقابر «أشعر كأنني ولدت على فراش من شقاء». الشقاء إذاً، يشكّل محور قصصه الأولى التي كتبها في دمشق كتجربة حياة في المقام الأول، ليدخل عتبةً سردية جديدة في بيروت.

مع «الرجال الخطرون»، تذهب قصص ياسين رفاعية إلى الكثافة والاختزال يحيط بها عالم مغلق وكتيم وعنيف. أشخاص مراقبون على الدوام. مطاردات واستجوابات واتهامات تنتهي بالاعتقال أو القتل. يضيق المكان إلى حدود زنزانة معتمة، أو أقبية رطبة، أو غرف تعذيب. إنه زمن صعود المخابرات، وانتهاك حرية الفرد وحبس أنفاسه، في متوالية سردية تنطوي على وقائع مخزية: «غامت الدنيا في عينيه، ولم يعد يرى سوى الأقدام الضخمة تتقاذفه من مكانٍ إلى آخر... في ما بعد، حمل الرجال الأربعة الجثة وألقوا بها في مكان خارج المدينة. ثم خرجوا في مهمة جديدة».
مجموعته الأخيرة «العصافير» هي ذروة منجز هذا القصاص السوري، وفق ما قاله نقّاد مرموقون، في ابتكارها السردي وكثافتها التعبيرية، ومزاوجتها بين عالم الأطفال والكبار. خرج ياسين رفاعية من حي العقيبة الشعبي باكراً، لكنه حمل حكايات بؤسه معه في مشهدية واقعية تنتمي بامتياز إلى «العيش في التجربة»، فغرق في أوحال الأزقة المهملة ونماذجها البشرية في بؤسها وعشقها وخيباتها. يهتف بطل قصة «العالم يغرق»: «الصخرة ثقيلة. الصخرة ثقيلة. وسيظل العالم في انحداره الأبدي يغرق في بحرٍ آسن».
سيزيف الدمشقي يعيش مأساة يومية بلا قرار، فكانت الكتابة ملاذه الأليف في تعويض خسائره الحياتية المتكررة. يقول في تقديم قصصه: «كل قصة كتبتها، كتبتها بعصب روحي ودمي». القصة هنا إذاً، استرجاع وقائع معيشة أكثر منها تجارب تخييلية؛ إذ يتفوق الحكواتي على السارد، بعيداً عن التجريبية التي وسمت تجارب مجايليه مثل زكريا تامر، وسعيد حورانية، وجورج سالم. لكنها من ضفةٍ أخرى، نموذج لمناخ قصصي، أسّس لتجارب لاحقة، قبل أن تنطفئ القصة السورية، أو تحتضر إلى حدودها الدنيا، بعدما اقتحمت الرواية الساحة بنحو لافت.