الجزائر | نعيش اليوم في عالم مستعمَر من جديد. لا أحد يقدر على إنكار ذلك. الاستقلالات قد فشلت». هذا ما قالته ميراي فانون منديز فرانس ابنة المناضل والمفكّر الثوري (1925 ـــ 1961) الذي مثّل مرجعاً لحركات التحرر في العالم الثالث. جاءت مداخلتها خلال افتتاح ملتقى «روح فرانز فانون» في المركز الثقافي «الهادي فليسي» في الجزائر قبل يومين، لتؤكد على أنّ الطبيب النفسي والكاتب المارتينيكي الأصل ما زال في صلب راهننا رغم مرور نصف قرن على رحيله. عبر سلسلة ندوات تُخصص لفكره ومساره النضالي ضمن فعاليات خمسينية الاستقلال، تعيد الجزائر ولو متأخرةً الاعتبار إلى أحد أبرز الرموز ممن أسهموا في تأسيس «الفكر العالمثالثي». الملتقى الذي تنظمه «الوكالة الجزائرية للإشعاع الثقافي» بالتعاون مع منشورات «أبيك»، ويستمر حتى العاشر من تموز (يوليو) الحالي، يُقسم إلى محورين أساسيين: الأول فكري يستمرّ حتى اليوم في المركز الثقافي «الهادي فليسي» في «شارع «فرانز فانون» في الجزائر العاصمة.
جمع هذا المحور ثلاثين باحثاً وكاتباً ومُرافقة فانون الطبيبة أليس شركي شاركوا في محاضرات تلخّص مقولة فانون «لا نريد أن نُلحق بأحد، نريد أن نسير طوال الوقت، برفقة الانسان وكل الناس»، لكنّ الأهم سيكون المحور الثاني الأدبي الذي يقام في «دار عبد اللطيف»، (مقرّ «الوكالة الجزائرية للإشعاع الثقافي») ومهمته اقتفاء أثر فانون «من خلال القراءات الأدبية وتبادل الأفكار». لقاءات تدور حول شخصية صاحب «معذّبو الأرض» (أو «ملعونو الأرض») من خلال أمسيات يقدّمها روائيون وشعراء كانت أعمالهم مقاربة أو تحاكي نصوص المفكّر المدفون في إحدى مقابر الشهداء في الأوراس (شمال شرق الجزائر).
بعدما انخرط باكراً في جبهة التحرير الجزائرية، رحل فانون قبل أشهر من الاستقلال من دون أن يرى الجزائر حرة. تكرّر الإجحاف بعد الاستقلال. غُيّب اسمه وفكره عن المناهج التعليمية منذ الستينيات، حتى إنّ أبناء جيل الاستقلال لا يكادون يعرفونه. ولم يلق الاهتمام الذي يستحقه في بلد المليون شهيد، لا عن أعماله العلمية الفكرية ولا عن كتاباته الأدبية. تدارك هذا التقصير بدأ في السنوات الأخيرة حين أعادت الجزائر الاعتبار إلى ذلك الطبيب النفسي في مستشفى «جوانفيل» في مدينة البليدة، والأهم أنّها أعادت الاعتبار إلى الذاكرة الثورية لبلد المليون شهيد. بدأ الباحثون يشتغلون على أفكار «اللاجئ» الآتي من جزر المارتينيك، مسقط رأسه، إلى الجزائر حيث انخرط في ثورة التحرير فور اندلاعها عام 1954. هناك أسهم في تأسيس صحيفة «المجاهد» الناطقة باسم الثورة ورئس تحريرها، كما مثّل الجزائر دبلوماسياً وعمل سفيراً للحكومة الجزائرية الموقتة في غانا. عبارته «كل ما أخذ بالقوة لا بد من أن يسترد بالقوة» كانت شعاراً رفعه الثوار ضد الاحتلال. وكانت الصوت السحري لمواصلة المقاومة المسلّحة واسترجاع الحرية المسلوبة، وخصوصاً أنّ «المستعمِر مستعد للعنف في أي وقت».
من خلال فانون، حاولت الجزائر نفض الغبار عن إرث المفكرين والأدباء الذين رافعوا عن القضية الجزائرية أثناء الاحتلال الفرنسي. هكذا قام بعض الأكاديميين بتنظيم أول ملتقى يحمل اسم «فانون» عام 1987 بحسب الباحث عمر لرجان الذي كان من بين المشاركين. كانت تلك أول مرة يقام فيها حدث ثقافي حول فانون في «ديوان رياض الفتح» في العاصمة (المكان السياحي الذي يحوي معلم الشهيد)، وركز يومها على شهادات شخصيات عرفت الراحل، فكان لا بد من الاحاطة بحياته التي كانت مجهولة قبل ذلك التاريخ، وأضاء الملتقى على مسيرة نضاله من خلال باحثين وأصدقاء كانوا في الاغلب ممرضين اشتغلوا معه في مستشفى «جوانفيل». تزامن هذا الملتقى مع ظروف صعبة عرفتها الجزائر بداية «العشرية السوداء». لذلك لم يستطع القائمون عليه آنذاك تدوين أي كلمة عنه رغم أهمية شهادات المشاركين.
ملتقى آخر شهدته الجزائر عام 2009 اندرج ضمن عنوان «الذاكرة أقوى من النسيان»، وكان أكبر وأشمل، جمع بين الفكر الفلسفي والعلمي والأدبي لصاحب «بشرة سوداء، أقنعة بيضاء»، وأعيد طبع بعض مؤلفاته في إطار هذه التظاهرة. والعام الماضي، أحيت الجزائر ذكرى وفاته الخمسين من خلال تنظيم ملتقى آخر تركّز على «الارث الفكري والمعرفي لفانون». للمرة الأولى، تمت مناقشة «قدرة دول العالم الثالث التي تحررت من الاستعمار على مواجهة العولمة في الوقت الراهن». شاركت ابنته ميراي أيضاً بمحاضرة قالت فيها يومها إنّ فكر والدها ما زال راهناً حتى اليوم، يمثل مرجعية لأبناء دول الجنوب ولمواجهة القوى الرأسمالية التي تتخبط في أزمتها الاقتصادية بعدما عجزت عن تقديم نموذج انساني أو تحقيق العدالة.



«روح فرانز فانون»: حتى 10 تموز (يوليو) ـــ «دار عبد اللطيف» (الجزائر العاصمة) ــ http://www.aarcalgerie.org/
للاستعلام: 2650145+213