في نهاية السنة الماضية، صدر لدى شركة Decca العالمية تسجيل لعازف بيانو لم يسمع به إلا قلة. إنه البريطاني بنيامين غروفنر الذي لم يكن قد أكمل أعوامه الـ19 عندما دخل استوديو التسجيل. في المناسبة، هو أصغر عازف يوقّع عقداً مع Decca، وأول عازف إنكليزي ينضم إلى هذه الشركة منذ ستة عقود! المتابعون الفضوليّون اشتروا التسجيل، فاكتشفوا مذهولين هذا العازف. قبل ذلك لم يعرفه سوى من حضر أمسياته الناجحة التي بدأها في بريطانيا وهو في الـ12 من عمره.
تباعاً، منحته المجلات المتخصّصة «برَكتها»، واحتفت به كظاهرة لا تتكرر كثيراً. آخر هذه الاحتضانات أتى من «ديابازون»، المجلة الفرنسية العريقة، في عددها الصادر في أيار (مايو) الماضي. قبل ذلك، مدحته صحفٌ يومية كثيرة وغيرها من وسائل الإعلام. إلاّ أن الجمهور العتيق لا يأبه للآراء الآتية من مصادر غير متخصّصة... فأتاه الأداء المسجَّل بالجواب اليقين.
لحسن الحظ، اختار غروفنر لباكورته أعمالاً معروفة جداً، ما سهّل عملية استشعار موهبته عبر مقارنة أدائه بتسجيلات مرجعية للأعمال ذاتها، وأبرزها: الـ«سكيرزو» الأربعة لشوبان، رائعة رافيل للبيانو Gaspard de la Nuit، وأعمال أخرى لشوبان ولِسْتْ. الأداء ممتاز عموماً، إذ يهتم العازف بإظهار أدق التفاصيل (بالأخص اليد اليسرى)، ويقدِّم جديداً لم نألفه من قبل. لكن يجب القول إن غروفنر في بعض الجمل، لا يزال في الوادي الذي تطل عليه قممٌ في أداء هذه الأعمال. وما قدّمه لا يتخطى، بل ينافِس أحياناً تسجيلات «وحوش» العزف على البيانو في القرن العشرين. الأهم أنّ لدى الرجل كل الصفات والمؤهلات التي تجعل من متابعة نشاطه والمراهنة على مستقبله الموسيقي أمراً مغرياً. لذا، احفظوا جيداً هذا الاسم!
إذاً، هذه الأسطوانة الأولى لبنيامين غروفنر، شبيه الأسطورة الراحل فيلهلم باكهاوز (عازف من أبرز رموز المدرسة الألمانية) في الملامح والنظرات الحادّة. بالتالي، ما زال بإمكان مهرجاناتنا الآخذة مستوياتها في التراجع (أقله لناحية البرمجة الكلاسيكية)، دعوته في أقرب فرصة... فقد نقول يوماً: «غروفنر كان هنا»، كما قالت لينينغراد وموسكو عن غلان غولد (1932 ـــ 1982) بعد عقود على جولته السوفياتية عام 1957.