قبل عامين، أنجز الشاعر المصري الشاب المقيم في الإمارات، حمزة قناوي، كتابه السردي الأول «المثقفون» عن «دار الثقافة الجديدة» (القاهرة) اليسارية المعروفة. لفت العمل أنظار الكثير من هواة التقصي عن سير المناضلين القدامى، بعدما روى بلغة سردية ممتعة تجربة مؤلفه في العمل مساعداً شخصياً لعالم اجتماع كبير مهموم بالحركة الوطنية المصرية. لم يكن صعباً على قارئ الكتاب معرفة العالِم المقصود الذي لم يكن سوى المفكر أنور عبد الملك الذي رحل قبل أيام. ينتهي العمل الأول بصورة رمزية دالة لبطلها الشاب حاملاً مقالات «الدكتور» وهو يسير في تظاهرات حركات «كفاية» التي يقمعها الأمن بعنف. في روايته الجديدة «من أوراق شاب مصري» (دار الآداب)، يخوض قناوي المغامرة ذاتها، لكن بالرهان على تغيير في علاقات القوى. بينما جعل شخصية عبد الملك محوراً لـ«المثقفون» عبر تأمل نقدي لذات المفكر الكبير التي تبدو جريحة تعاني الكثير من عذابات الغياب رغم تحققها، سعى قناوي في عمله الجديد الذي صنفه الناشر كتاباً روائياً، إلى الذهاب أكثر صوب ذاته هو بوصفه بطلاً منكسراً ومهزوماً في مجتمع يعاني شتى أنواع الفساد وينتظر الكارثة، فيما يشكّل عبد الملك جزءاً من الكتاب.

لا يمكن من قرأ العمل الأول إلا أن يجد نفسه وقد تورط في مقارنته مع النص الثاني الذي يبدو أقل شغفاً ربما بسبب انجلاء اللعبة الفنية، ورغبة المؤلف في إعلان هوية بطله. العمل المكتوب بنبرة مرة، يخلو من عمليات التخييل الفني ويكتفي بتفعيل زمن معطل يعكس أوان الانهيار. صحيح أنّه لا يبشر بالثورة، لكنّه ينطق بأسبابها ويوثّق لذات أخرى مهمشة تعيش معاناة مختلفة وتنشد طوال الوقت الوصول إلى نشوة التحقق الكامل لتجمع مختلف صور السلطة وأبعادها الرمزية.
يفتتح حمزة قناوي روايته بمشهد له وهو يغادر القاهرة محبطاً بحثاً عن فرص أفضل للعيش الكريم في أحد بلدان الخليج. تمضي صفحات الرواية لتكشف عن الأسباب التي تجعل خروج البطل حلاً وحيداً لأزمات متعددة يكشف عنها في السرد التوثيقي الذي يجاور بين خصوصية حالته وأزمات مجتمعية يحمّلها بالكامل لنظام حسني مبارك ويوثق لها بأبحاث ودراسات تقتحم لغة السرد.
واللافت هنا أنّ شخصية المثقف النقدي (أنور عبد الملك) تبدو غير راغبة في استكمال مهمتها في الثورة على النظام، بينما يقارنها البطل بسلوكيات مثقف آخر هو عبد الوهاب المسيري الذي تحول من منظر إلى قائد جماهيري. لا يخلو كتاب قناوي من مرارة، فهو يمثّل مرآة توجز أوجاع المصريين البسطاء ومراراتهم، لكنه لا يخلو أيضاً من ترهلات فنية. لعبة الكولاج السردي التي تقوم على توظيف المادة الوثائقية تعاني من «ثرثرة انفعالية» تدفع المؤلف إلى إعادة إنتاج الأزمة بطريقة تفقدها طاقتها الدلالية، بينما هي أقرب إلى نص سيري أو كتاب يوميات كان يسهل على ناشره إجراء عمليات حذف كثيرة ليضمن له قواماً أكثر رشاقة ويخلص مؤلفه من عقدة كتاب «المثقفون». هذا العمل الذي يظل فريداً في قدرته على تأمل انكسارات مثقفي جيل التحرر الوطني، بينما يبقى «من أوراق شاب مصري»، أشبه ببيان من بيانات التغيير المنتظر.