القدس المحتلة | التطهير العرقي للفلسطينيين له ما يوازيه في الكتب المدرسية الإسرائيلية «الشبيهة بساحة حرب ولغة البيانات العسكرية»، وتهدف إلى «إعداد الطلاب الاسرائيليين للخدمة العسكرية كي يكونوا جنوداً جيدين» كما ذكرت أستاذة التربية والأدب المقارن في الجامعة العبرية الباحثة نوريت بيليد الحنان. المحاضرة التي أقامتها منذ أيام في «المركز الثقافي الفرنسي» في القدس المحتلة وقدّم لها الباحث إيلان بابيه (صاحب «التطهير العرقي»)، حملت اسم كتاب الحنان الجديد «فلسطين في الكتب المدرسية الاسرائيلية: الايديولوجيا والبروباغندا في التعليم» (2012 ـــ دار I.B. Tauris).
بابيه، أحد المؤرخين الجدد في إسرائيل، والمعروف بقراءته النقدية للأسطورة الصهيونية، قدّم لمحة تاريخية عن التحوّل الذي حصل في أواخر الثمانينيات «حين بدأ مثقفون وأكاديميون إسرائيليون بمساءلة الثقافة والمعرفة التي تُنتجها دولتهم بشأن الماضي والحاضر في ما يتعلّق باحتكار ذاكرة الهولوكوست، ومعاملة فلسطينيي الـ1948 واليهود الشرقيين». ورأى بابيه أنّ «قلّة من هؤلاء المثقفين واصلوا أبحاثهم من داخل المؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية، وقلة أقلّ من هؤلاء تطرقت الى موضوع العسكرة داخل المدارس وفي التعليم ومنهم نوريت بيليد الحنان».
بدأت الحنان محاضرتها بالتساؤل «عن سبب تحوّل الاسرائيليين الى وحوش حين يرتدون البزّة العسكرية؟». سؤال قادها إلى الكتب المدرسية التي يتربّى عليها الأطفال الإسرائيليون وإلى كتابها Palestine in Israeli Books: Ideology and Propaganda in Education. اعتبرت الحنان أنّ «الانسان الفلسطيني يُختصر في كتب الجغرافيا والتاريخ واللغة والدراسات المدنية الاسرائيلية في صور عنصرية وتشويهية»، فـ«هو غائب تماماً في الكتب المدرسية، حتى ذاك الذي يعتبر مواطناً في إسرائيل، وليس فقط اللاجئ أو الذي يسكن الضفة الغربية وقطاع غزة». وأضافت: «وإذا ظهر الفلسطيني، فهو إرهابي بوجه مغطى، أو عربي ينتمي الى 22 دولة عربية، فيما ليس للإسرائيلي أي مكان آخر».
من خلال صورة لعلي بابا بسرواله الواسع وجَمَله ونظارته الشمسية، أحالت الحنان الى نمط آخر من التشويه «مستوحى من رسوم الأوروبيين في القرن التاسع عشر عن العربي. إنّها الصورة الكاريكاتورية للفلسطيني. العربي دوماً يتبعه جمل، والتركي دوماً لديه شنب». أيضاً، هناك «الفلاح البدائي أو اللاجئ» وكلّها صور متجذرة في العقيدة الصهيونية. وهنا أشار إيلان بابيه إلى أنّه «ما زال يُعاد إنتاج هذه الصور في الكتب المدرسية منذ الصهاينة المؤسسين الذين شوّهوا صورة الفلسطينيين في كتاباتهم». في هذه الكتب «لا يتم الحديث عن الفرد الفلسطيني الطبيب أو الاستاذ أو الطفل. الفلسطيني إما إرهابي أو فلاح بدائي أو لاجئ أو شخصية كاريكاتورية أو غائب تماماً».
في المقابل، رأت الحنان أنّ الكتب المدرسية الاسرائيلية «تُركّز على الفلسطينيين بوصفهم جماعة تشكّل خطراً ديموغرافياً يتهدد الأغلبية اليهودية، لذا ينبغي التحكم فيهم». وتلعب ألوان الصورة دوراً مؤثراً في «إشعار الاسرائيليين بالعداء والنفور من الفلسطينيين». على سبيل المثال، من خلال صورة قاتمة لشارع فارغ من الناس وفائض بالمياه في أحد المخيّمات الفلسطينية، تُختزل «المشكلة الفلسطينية باعتبارها مشكلة بيئية وصحية». وتظهر القرية الفلسطينية بألوان شاحبة وصفراء تثير «شعور اغتراب الاسرائيلي عن المكان الفلسطيني»، فيما تظهر «بيوت المستوطنات بألوان حيّة كأنها منازل سويسرية، حتى ولو كانت في مستوطنة في صحراء النقب». وتابعت إلحنان «يتم إظهار المكان الفلسطيني رافضاً للحداثة والألوان الحيّة». وشدّدت الحنان على أنّ «كتب التاريخ الاسرئيلية تشرعن المجازر التي ارتكبتها العصابات الصهيونية، تحت منطق أوديب قتل والده لكنه أنقذ المدينة». وأخذت الحنان مجزرة قبية المرتكبة عام 1953 على يد الوحدة 101 بقيادة أرييل شارون، وراح ضحيتها 69 فلسطينياً، كمثل على هذه الشرعنة، «فالمجزرة تُدرّس في سياق أننا فعلنا هذا لمصلحتنا، وللمحافظة على الأغلبية والامتداد اليهودي الذي كانت القرية ستحول دونه»، وإلى جانب النص هناك صورة لـ«جنود الوحدة الشجعان» مرفقة بقصيدة.
ويتواصل طمس وجود الفلسطينيين وتغييب مدنهم وقراهم في خرائط كتب الجغرافيا المدرسية التي «تذكر حدود أرض إسرائيل، وليس حدود دولة إسرائيل» كما أكّدت الحنان. الطمس يطال مدناً فلسطينية رئيسية مثل عكا والناصرة، كما يطال بلدات وقرى صغيرة من خلال «عدم ذكر أسمائها، مقابل إظهار المستوطنات والمنشآت الإسرائيلية» أو إظهارها كمنطقة لا تتوافر عنها معلومات مثل الضفة الغربية، و«ما دام لا معلومات عن المنطقة، فإنّها إذاً خالية من السكان. وهنا يجري إمرار رسالة مفادها ضرورة إعمار هذه البقعة والسكن فيها». هكذا فسّرت الحنان هذه الخرائط الفارغة من المعلومات، ورأت أنّه «منذ اتفاقية أوسلو، حصلت تغييرات في كمية المعلومات التي صارت أكثر تطرفاً. مدينة الخليل صارت تُسمى مدينة الأجداد على الخارطة. وإذا ظهرت صورة العربي أو الفلسطيني، فإنها دائماً تظهر على الجانب الأردني منها» الى جانب الخرائط التي تُظهر جنوداً يصوّبون رشاشاتهم صوب جنوب لبنان وسوريا.
وخلصت الحنان إلى أنّ «الخريطة الذهنية لإسرائيل ذات أثر كبير ليس فقط على طلاب المدراس، بل على ما يُنتج من ثقافة في إسرائيل»، إذ يعتبر الاسرائيليون أنفسهم موجودين في أوروبا وليس في الشرق الأوسط. هكذا تعثر عل نص يصف القرية الفلسطينية «البعيدة عن المدينة، والطريق إليها وعرة حيث لا كهرباء أو ماء. وهذا وصف ينطبق على بلدة موجودة في أستراليا» علّقت الحنان ساخرة.
لا تتطرق المناهج المدرسية الاسرائيلية إلى موضوع السلام، حيث «يُذكر السلام في الصين والهند وأوروبا في أحد الدروس المتعلقة بالموضوع، ولكن لا كلمة واحدة عن السلام بين العرب والإسرائيليين». وفي روضة الأطفال «يتم إحضار جنود إسرائيليين في عيد الاستقلال وذكرى المحرقة للحديث عن الخطر الداهم بمحوهم من قبل العرب، وعن المحرقة والحروب». هكذا لا تترك الكتب المدرسية الاسرائيلية فرصة، إلا لإعداد الاسرائيلي للجيش، وغرس روح العداء للفلسطينيين والعرب في نفسه من خرائط وصور ونصوص ورسوم بيانية تشير الى «الجماعات غير اليهودية»، و«لا يعطى الطالب الإسرائيلي طوال سنوات دراسته تعريفاً لمن هو الفلسطيني»، فإذا به يدخل الجيش بتعميمات عنصرية وتشويهية عن الفلسطينيين والعرب مثل: «مشكلة اللاجئين الفلسطينيين خُلقت في البلاد العربية» و«أراضيهم (أي الفلسطينيين) تتقلّص من تلقاء نفسها»، و«الطرد كان كثيراً من كلا الجانبين، وقادة الدول العربية، استغلوا مشكلة لاجئي فلسطين لحاجاتهم السياسية» وأخيراً «العرب يرفضون العيش في المباني العالية»!



هل تصلح التوراة مرجعاً تاريخيّاً؟


لا تبتعد نوريت بيليد الحنان (1949) عن الفكر الصهيوني عموماً، بل تتبنى النظرة الاختزالية إلى الآخر من خلال تجاهل ثنائية الجلاد (إسرائيل) والضحية والمساواة بينهما. والدها هو ماتي بيليد الجنرال الإسرائيلي الذي شارك في حرب الـ1967 قبل أن يصبح ناشط سلام ومعارضاً لسياسة الاستيطان وأحد مؤسسي قسم الأدب العربي في جامعة تل أبيب. بعدما ماتت ابنتها التي كانت تبلغ 14 عاماً في عملية فدائية عام 1997، رفضت الحنان أن يحضر جنازتها الضباط الإسرائيليون، بمن فيهم بنيامين نتنياهو، معلنة أنّ «ذلك لن يجعلها تيأس». وخلال الجنازة، قرأت خطاباً حمّلت فيه المسؤولية «لسياسة عرجاء ومشوّهة البصيرة ترفض أن تعترف بحقوق الآخر وتزرع الكراهية والنزاعات».
في كتابها «فلسطين في الكتب المدرسية الإسرائيلية: الإيديولوجيا والبروباغندا في التعليم»، تتوغّل نوريت بيليد الحنان في المنظومة التربوية الإسرائيلية، مفكّكة خطابها في ما يخصّ صورة الفلسطيني، مظهرةً أنّ الكتب في المدارس الإسرائيلية متخمة بالإيديولوجيا المناصرة لإسرائيل، وتؤدي دوراً كبيراً في تمهيد الطريق كي يصبح الطفل جندياً إسرائيلياً. تفعل ذلك من خلال تحليل الصور، والخرائط، واللغة المستخدمة في التاريخ، والجغرافيا والدراسات المدنية، مظهرة كيف توظَّف هذه الوثائق والكتب بغية تهميش الفلسطينيين، وشرعنة العمليات العسكرية الإسرائيلية، وتعزيز الهوية اليهودية الإسرائيلية.
وتقول نوريت بيليد الحنان ان «التعليم الرسمي في إسرائيل يستخدم التوراة كمصدر تاريخي موثوق به»، وتضيف في مكان آخر أنّ الباحثين يعرّفون إسرائيل بأنّها «ديمقراطية» ترتكز إلى الاثنية لا إلى المواطنة؛ فاليهود من مواطني الدول الأخرى والمستوطنون اليهود الذين يعيشون خارج فلسطين التاريخية لهم حقوق المواطنة كاملة، «بينما لا يملكها المواطنون العرب داخل حدود الدولة».