يعترف المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد بأنه استفاد من أفكار أنور عبد الملك حول «الاستشراق»، وخصوصاً المقالة التي نشرها عبد الملك عام 1963 في مجلة Diogenes. إنها مقالته الشهيرة «الاستشراق في أزمة» التي كانت أشبه بحجر ألقي في بحيرة راكدة، وهاجمها كثيرون هجوماً حاداً من داخل مصر وخارجها، معتبرين إياها «تصفية حساب مع الغرب»، لكن عبد الملك التزم الصمت تجاه منتقديه، حتى جاء إدوارد سعيد ليخرج الفكرة من إطارها المحدود، وربما ترك ذلك الكثير من المرارة لدى صاحب «نهضة مصر». في إحدى مقالات كتابه «الجدلية الاجتماعية»، يسترجع عبد الملك ما سمّاه كلود روي «الستار الحديدي من الأحاجي الزائفة»، محاولاً «إعادة تقويم للمفهوم العام والمناهج والأدوات التي أعطت الغرب معرفته بالشرق على كل المستويات وفي كل الميادين». رأى صاحب «الإبداع والمشروع الحضاري» أنّّ من الضرورة مراجعة الاستشراق نفسه على ضوء المتغيّرات الجديدة، وخصوصاً مع انتصار حركات التحرّر القومي المتنوعة في العالم. وميّز عبد الملك بين مجموعتين من دارسي الشرق الأوّلي.

كلتا المجموعتين درست الشرق والشرقيّين بوصفهما موضعاً للدراسة يتميز بآخريته، أي بكونه شيئاً آخر، لكن الآخرية هنا هي تكوينية وجوهرية، إذ يُعتبر موضوع الدراسة سلبياً وغير مشارك، وأنه قد مُنح ذاتية تاريخية هي فوق أي اعتبار آخر... ذاتية غير نشطة وغير مستقلة ليست لها أية سيادة على نفسها. وكلتا المجموعتين تتبنّى مفهوماً جوهرياً لدول وأمم وشعوب الشرق، يترجم نفسه إلى سلّم أنماط عرقي ذي خصائص مميزة. هاتان المجموعتان أثمرتا الكثير من العناصر الإيجابية في الدراسات العربية والإسلامية، مثل دراسة الحضارات القديمة، وتجميع المخطوطات العربية في المكتبات الأوروبية وتصنيف فهارسها، ونشر عدد من الأعمال الهامة. وقد أسهمت حركات الاستشراق في إيقاظ الوعي القومي في دول متعددة في الشرق، دافعة إياها إلى التحرك نحو النهضة العلمية واكتشاف المُثُل. طوّر إدوارد سعيد هذه الأفكار في كتاب كامل حقق له الشهرة. لم يكن يهدف سعيد إلى تقديم حلول للمشكلات، بل أن يرسم للناس طريقاً وعليهم أن يمشوا عليه بأنفسهم، انطلاقاً من المثل القائل «علم الناس الصيد ولا تقدّم لهم السمك». كان الأمر واضحاً بالنسبة إليه، فهو ليس استراتيجياً مثل كيسينجر، ولا يدّعي تقديم رؤية سلطوية دكتاتورية، وربما هذا ما جعل فكرته تشتهر وتنتشر، بينما تظل فكرة عبد الملك أسيرة المجلة التي كتبها فيها!