جئنا متأخرين عن الموعد المحدّد، بسبب صعوبة الوصول إلى منزل وديع سعادة في قرية شبطين (شمال لبنان). الشاعر اللبناني الذي يحاول «وصْل ضفّتين بصوت»، كان يقف على مكان مرتفع أمام بيته، متعمداً ذلك كي لا نضلّ الطريق إليه. رأيناه من بعيد، ولوّح لنا، لنعرف أننا وصلنا أخيراً. «يا هلا» يقول لنا، قبل أن يدفعنا المطر المباغت إلى دخول البيت الذي بدت مساحته الداخلية مفتوحة بلا فواصل إسمنتية تعمل على تقسيمها غرفاً ومطارح. «لا آتي إلى هذا البيت إلا في زياراتي المتباعدة للبنان»، يقول صاحب «مقعد راكب غادر الباص».
يدعونا إلى مائدة مُعدّة بذائقة قروي حقيقي، لم تستطع سيدني إفسادها أو النيل منها، رغم إقامته في العاصمة الأوسترالية منذ عام 1988حين ترك لبنان، هذا البلد الذي لم يعد يعشقه ويرتبط به. «لبنان ليس لبنان. أحزن كثيراً على هذا البلد».
يفاجئنا صاحب «رتْق الهواء» بالسؤال: «هل لاحظتم وأنتم قادمون إلى هنا، أنه لا يوجد أي مركز ثقافي واحد على الطريق؟»، يجيب بنفسه قبل أن يترك مجالاً لمتحدثه: «لقد حوّلوا كل شيء إلى مطاعم وأماكن للترفيه». يؤكد سعادة أنّ هذا «التفكير الاستهلاكي» لا يمكن أن يبني دولة مدنية حديثة، قائمة على المساواة والمواطنة. «هذا ما دعاني إلى الهجرة التي لم تكن رحلة للبحث عن المال والثروة».
يخبرنا أنه قبل فترة قصيرة من اتخاذه قرار الهجرة النهائية من لبنان، عُرض عليه العمل في إحدى الصحف بمقابل مادي كبير، «لكنني فكرت في مستقبل أولادي. هل أورثهم «مصاري» أمّ وطناً محترماً يقيمون فيه بمواطنة وحقوق متساوية؟ اخترنا الاحتمال الثاني». مع ذلك، يؤمن صاحب «من أخذ النظرة التي تركتها أمام الباب؟» بأن المكان يقيم في قلب الواحد منا، وبالتالي، «فإن الوطن يوجد أينما كنت». ألهذا السبب لا يزور لبنان بانتظام؟ يجيب مباشرة بالنفي: «لبنان قصة أخرى»، يقول مشيراً إلى أن معضلة هذا البلد الكبرى تتمثل في «داء الطائفية» التي خربته وأحرقت كل ما يمكن معالجته... «لا يمكن الشفاء من الطائفية التي تنخر لبنان. إنها مرض وراثي لبناني، ينتقل من الآباء إلى أبنائهم... وهكذا
دواليك!».
يقول صاحب «قل للعابر أن يعود ــ نسي هنا ظله» إن هذا «التشييع الديني» يتكرر اليوم في صيغة أخرى، «من خلال هذه الثورات القائمة حالياً في أكثر من وطن عربي». يؤكد أنه كان في بداية الأمر متفائلاً جداً بالربيع العربي، معتبراً إياه وسيلة لإعادة إنتاج حياة الفرد العربي وحريته التي احتُقرت وقمعت طوال عقود، «لكنني اكتشفت أن كل هذا لم يكن سوى عملية تبديل لدكتاتوريات عسكرية بأخرى دينية... وهذا أمر محزن للغاية!».
لا ينجح صاحب «المياه المياه» في إخفاء علامات الضيق والقلق والخيبة التي تتوزع على تقاسيم وجهه وهو يتحدث عن الصعود الديني، ودكتاتورييه الذين ركبوا موجة الثورات وصاروا ناطقين باسم الشعوب التي بادرت إلى التحرّك. فجأة، يتوقف وديع سعادة عن الكلام. لحظات كانت كافية لاستعادته تلك الابتسامة التي استقبلنا بها: «رغم كل شيء، هناك أشياء تدعو إلى الفرح». ما هي؟ يحكي لنا بالتفصيل عن البهجة التي تعتريه عندما يقرأ ديواناً لمبدع شاب، مؤكداً أنْ لا قطيعة في الشعر. يقول صاحب «ليس للمساء أخوة» بلكنة مرحة: «أنا ما بعرف أحكي، وما بعرف شي بالتنظير... بعرف أكتب شعر وبس!» قبل أن يخبرنا أنه يترك لقلبه حرية تلمّس النصوص الشعرية الجيدة من سواها؛ فـ«كل كتابة إنسانية تمسّني. وفي شعري، أحاول أنسنة الأشياء لأرفعها إلى مرتبة الإنسان».
انحياز صاحب «نصّ الغياب» وتقديره لقيمة الإنسان هنا، يتمثّلان في تصرفاتٍ عملية يقوم بها عبر أكثر من طريقة، مثل إعلانه مقاطعة دور النشر ورفضه طباعة أعماله الشعرية لديها، مفضلاً طباعتها على نفقته الشخصية، «نظراً إلى الإجحاف الذي يلحق بالشعراء والكتاب من مؤسسات النشر والتوزيع في لبنان».
باللهجة المرحة والطريفة ذاتها، يروي لنا قصة صحيفة أوروبية ظلت لمدة ثلاثة أشهر تبحث عن عنوانه الشخصي، كي تبعث له مبلغاً مالياً مقابل نشرها قصيدة مترجمة له، إلى أن عثرت عليه. «هذا هو الفارق الثقافي والحضاري الذي من شأنه أن يُحدث هوّة بين مجتمع وآخر»، يقول لنا صاحب «غبار»، قبل أن يدعونا إلى تذوق حبات اللوز التي قدمها لنا. «إنها من تلك الشجرة»... ويشير باتجاه شجرة ضخمة تبتعد عن مكان جلوسنا. «زرعتها قبل قبل هجرتي إلى أوستراليا». ومنذ ذلك الوقت، لم يتب صاحب «بسبب غيمة على الأرجح» عن مواصلة هوايته الأثيرة هذه: «أنا أزرع كل شيء، ولا آكل إلا من حديقتي. منذ وصولي إلى أوستراليا، لم آكل شيئاً اشتريته من السوق، وما زلت أفعل هذا حتى اليوم».
يقترب موعدنا من نهايته مع اقتراب الليل، وضرورة عودتنا إلى بيروت قبل هبوط الظلام. «ليكن الوداع بالشعر» يقول. نطلب منه أن يقرأ لنا من قصائده، تاركين له حرية الاختيار. سيقع على قصيدة «مقعد راكب غادر الباص». يقرأها بطريقته الخاصة في إلقاء الشعر التي لا يجيدها أحد سواه. يتابع قراءته، حتى يصل إلى مقطع يقول فيه: «وداعاً بمعصميك الجميلين، بساعتك التي تشير إلى وقت مجهول، الساعة الرابعة الآن، وداعاً، شبطين، 6 كانون الأول 1962. أبي هيكلٌ عظميٌّ محروق يُسند ركبتيه بيديه، وكنبةٌ يخرج منها الدخان، شعاع قمر يدخل من الكوَّة، وعلى المائدة سمكة غير ملموسة، قنينة عرق فارغة، ورقة لوز أمام الباب». يتوقف هنا عن القراءة. تمتلئ عيناه بالدموع. «كان والدي جالساً على مقعد في هذا المكان، عندما شبّ حريق والتهم كل شيء». يضيف: «كنت قادماً من مدرستي في منطقة البترون. كنت في الرابعة عشرة من عمري ولم تكن أمي وقتها معه في البيت». يخبرنا أنه عندما فتح باب البيت، وجد والده وقد تفحّم على الكرسيّ. «كانت هناك رائحة «شبه جنائية» في الحادثة... لكنّ أحداً لم يتحرك!».
يتوقف عند رائحة شواء لحم والده التي لم تفارقه حتى اليوم. نهاية حزينة لموعدنا الأخير مع سعادة في زيارته هذه. يودّعنا، قبل أن يهمّ بتجهيز حقيبة سفره التي سيحملها معه إلى سيدني.




5 تواريخ

1948
الولادة في قرية شبطين (شمال لبنان)

1973
وزّع مجموعته الأولى «ليس للمساء أخوة» كما كتبها بخط اليد عام 1968

1988
هاجر إلى سيدني

2008
صدور أعماله الشعرية الكاملة عن «دار النهضة العربية» (بيروت)

2012
نشر ديوانه «قُلْ للعابر أن يعود ـــ نَسيَ هنا ظِلَّه» على موقعه الإلكتروني