دمشق | لا يمكن فصل الأعمال التي أنجزها التشكيلي السوري بطرس المعري (1968) أخيراً عن حالة الازدواجية الثقافية التي عاشها في باريس خلال سنوات دراسته. احتكاكه بثقافة أخرى مختلفة عن موروثه الشرقي العربي، أنتج هواجسَ وخيالات كثيرة، «بقيتُ مسكوناً بها دائماً» يقول لـ«الأخبار». ويضيف: «كانت تلك الهواجس تعيدني في غربتي إلى أحياء دمشق القديمة، كأن سكان هذه الأحياء الأثرية، قد لحقوا بي جميعاً إلى شوارع باريس وأزقتها».
مجموعة كبيرة من لوحات مختلفة القياسات والأحجام، يعود معظمها إلى السنوات التي قضاها صاحبها في باريس، ومنها ما أنجز حديثاً، تُعرض للمرة الأولى في «صالة تجليات» الدمشقية. عنوان معرضه «تجليات المعري في أوقات فراغ»، يشير على نحو واضح، إلى التهكّم والسخرية اللذين تؤكدهما جميع اللوحات التي فكّر فيها المعري وعمل على إنجازها في أوقات فراغه. وهو ما يؤكده أيضاً جارُ المعرّي في زياراته المتكررة إلى مشغله. إذ يعتبر أنّ عمل التشكيلي السوري في التدريس الجامعي هو الأساس، بينما منجزه الفني ليس أكثر من تسلية في أوقات الفراغ!
«أنجزت مجمل اللوحات في أوقات الفراغ، لذلك، فهي تحمل مزاج تلك الأوقات. كما أنّها صدى لملل يحكمني في الكثير من الأحيان». مواضيع مختلفة، وأساليب وتقنيات متنوعة، وحلول فنية نوّع فيها المعري من لوحة إلى أخرى، لتكون النتيجة النهائية خليطاً من الكاريكاتور، وفن الإعلان، ورسوم الأطفال العفوية، والقصة المصورة، والتصوير، والكولاج انطلاقاً من مواد مختلفة.
القاسم المشترك بين غالبية أعمال المعري، هو وجود الراوي الشعبي للحكايات التراثية في العديد من اللوحات، بتشكيلات ووضعيات ومعالجات مختلفة، أنتجت خليطاً تهكّمياً ساخراً من شخصيات تراثية معروفة، عاشت بطولات وهمية، لكنها في الواقع لم تحقق شيئاً. «لقد أثّرت بي دراستي للتصاوير الشعبية في مشرقنا، خصوصاً أعمال برهان كركوتلي التي قارنتها بأعمال أبو صبحي التيناوي.
كلا الفنّانين كان ينهل من الأدب الشعبي. كل هذا دفعني إلى استحضار هذه الأجواء في لوحاتي». هكذا، تحوّل إطار اللوحة عند المعري إلى متن لحكايات أعاد صياغتها وكتابتها وتقديمها على طريقته. أما مجمل الشخوص التي بدتْ أقرب إلى مسوخ أو كائنات خيالية مركبة بصيغة كاريكاتورية، فهي تفاصيل وجزئيات الحكاية وبدايتها ونهايتها. في عمق إحدى اللوحات، يجلس الراوي بتقنياته المختلفة، بينما الناس حوله في المقهى يحملقون فيه ويستمعون إليه، وينفثون الدخان ويحتسون الشاي. وتحضر في مقدمة اللوحة شخصيات الحكاية: شيبوب وعبلة... لكن يغيب البطل المقدام عنترة، وسط ذهول الحضور إزاء هذ الغياب. إنه إعلان واضح بأنّ أبطال تراثنا (عنترة، والزير سالم، وغيرهما)، ليسوا سوى أبطال وهميين، أعدنا إنتاجهم في أعمال درامية تلفزيونية كي نتحايل ببطولاتهم على خيباتنا وانكساراتنا في الواقع، وما أكثرها من خيبات!
يصعب على المتابع لتجربة المعري الأخيرة، قولبة أو تصنيف مجمل أعمال معرضه ضمن تيّار فني أو مدرسة محدّدة. في البداية، قد يشعر المتلقي بالارتباك في محاولته قراءة تفاصيل العمل وجزئياته، والتقنية التي أُنجز بها. لكنه ارتباك لحظي، يتلاشى بسرعة أمام ذكاء اللوحة ورشاقتها. حالة من التكثيف للحظات ومواقف إنسانية، عمل المعري على رسم خطوطها، وبناء تفاصيلها في تجربة جديدة كلياً عن مجمل تجاربه السابقة، وأكثر ما يميزها هو البساطة والانسيابية، والحرية الواضحة في التكنيك وأسلوب العمل. تقف أمام لوحة حملت عنوان «نزل السرور» اقتبس اسمها من عنوان مسرحية شهيرة لزياد الرحباني قُدمت في سبيعينات القرن الماضي.
في اللوحة، يخرج علينا عباس الثوري الذي احتل الفندق، وأخذ النزلاء رهائن ليرغمهم على إشعال الثورة، وهو يدخن سيجارة وضعتها الراقصة في إصبع رجلها. هكذا اختصر المعري قراءته إلى مجمل الثورات التي تعصف بالوطن العربي، وستنتهي ـــ بحسب تهكّمه وسخريته الواضحة في اللوحة ـــ على أيد وأرجل الراقصات والغانيات اللواتي سيعملن على ترويض أبطال الثورة وقادتها أيضاً.



«تجليات المعري في أوقات فراغ»: لغاية اليوم ـــ «تجليات» (دمشق ـــ مزّة فيلات غربية) ـــ للاستعلام: 00963112338