عمليّة جراحية امتدت ست ساعات متواصلة، وضعته أمام أسئلة لم يواجهها قبلاً. في فترة النقاهة، استدرج شريط حياته، فلم يلتقط لحظة شخصية واحدة جديرة بأن يحتفل بها كما يقول. لكن نبيل الملحم (1953)، سيجد في حيوات الآخرين الذين عبروا حياته مخزوناً لا ينضب في ترميم ذاكرة مهدّدة بالعطب والنسيان. هكذا اكتشف في الكتابة الروائية حقلاً شاسعاً للمكاشفة والاعترافات والحكي، كنوع من «الاحتيال على الموت، أو محاولة تأجيله»، وإذا بنا حيال حمّى روائية، بدأها بـ«آخر أيام الرقص» (دار الجمل- دار روافد)، وتلتها رواية «سرير بقلاوة الحزين» (دار أطلس- دمشق)، بالإضافة إلى ثلاث روايات أخرى تحت الطبع.
في «آخر أيام الرقص» (2012) يستعيد الروائي السوري الهزيمة المزدوجة التي عاشها جيل السبعينيات. أوهام اليسار من جهة، وتحوّلات الشارع السوري من جهةٍ ثانية. قصص حب محبطة، ومواجهات صاخبة، وشخصيات عبثية، ينتهي بعضها إلى الانتحار، لتضيق المساحة في روايته الثانية «سرير بقلاوة الحزين» إلى حجم زنزانة، وسرير للخيانات والعار والعنف. ضباط وعاهرات وهزائم. عقيد يمارس هوايته في البطش، ومعتقلون سياسيون تحت وطأة الضجر واليأس والموت البطيء، غالباً ما ينتهون إلى جثث في مشرحة كلية الطب، ومومسات يحدّدن خرائط الشهوات. لا تكفي عبارة «طز بالتاريخ» التي يقولها «أدهم» لتبرير حجم الخسائر، ولا حتى عبارة كهل تونسي، كان يردّد أمام كاميرا إحدى المحطات التلفزيونية، لحظة اشتعال الثورة التونسية «هَرِمنا.. هَرِمنا» كي نلتقط المصائر اللاحقة لهؤلاء المغلوبين. يرفض نبيل الملحم أن يحصر العبارة الأخيرة باللحظة التونسية فقط. يراها «لحظة تخصّ فجيعة بطل الرواية فوق خريطة أخرى، تقف عند حدود الهاوية». ويضيف «كل ما أنا متأكد منه أننا عبرنا خريفاً عربياً طويلاً. خريفاً جفّف أرواحنا، وأحالنا إلى بشر ممسوخين. لكن ما لست متيقناً منه، أننا سنغادر هذا الخريف باتجاه أي ربيع. ما حدث لاحقاً، هو عملية اختطاف معلنة، وصراع على الكراسي».
الخيبة إذاً هي الوشم الذي يطبع روح هذا الجيل الذي وجد نفسه مهزوماً حتى في أكثر قصص الحب جنوناً، وأكثر المواقف صلابةً، ما يجعل السرد هنا متوتّراً إلى أقصاه، في محاكمة شعارات، أودت بأصحابها إلى جحيم لحظة رملية يصعب إمساك خيوطها وتعقيداتها، وتفسير هشاشة ما يحدث في خريطة زئبقية «تنطوي على خطأ فادح في اتجاه البوصلة، وتيه ما بين توقيت ساعة الحائط، والتوقيت الشخصي» يقول. من جهةٍ أخرى، يعترف بأنه أهدر وقتاً ثميناً في الركض وراء أوهام اليسار، وحركات التحرر، قبل أن يلجأ إلى كتابة الرواية. يتذكّر هنا، عمله التوثيقي عن تجربة «جبهة البوليساريو»، و«حياة عبد الله أوجلان» إضافة إلى سبعة أشرطة وثائقية «لكنني لم أنل علامة المائة، ولو مرّة واحدة، في هذه الأعمال، فتوقفت».
لا يكتفي هذا الروائي المشاغب بحكاية واحدة في تأثيث نصّه التخييلي، بل تتناسل فجيعة شخوصه إلى خطوط تتقاطع في المياه العميقة للذاكرة، ذلك أنّ «الغرقى أكثر من إمكانية إحصائهم، بدءاً من كارلوس، وآغوب آغوبيان، ومرتضى بوتو، وياسر عرفات، إلى غانيات الليدرا، وسالونيكا، وشارع بغداد في دمشق». كأن هذه الحكايات المتشابكة التي عايشها عن كثب خلال عمله في الإعلام، هي من قرع الجرس الصغير في غرفة العمليات في المستشفى كي يدير رأسه نحو جهات أخرى «خشيت أن أموت فجأة من دون أن أفرّغ محتويات الخزّان من آثامي وخطاياي وأوهامي» يقول. ويشبّه سيرته الذاتية بشخص حكاية صينية قديمة قالوا له بأن كل الأرض التي ستقطعها ركضاً ستكون ملكك... الصيني ظل يركض ويركض حتى مات. «أنا هذا الصيني الذي سيبقى يركض ويركض حتى يموت». لا تخرج مناخات رواياته المقبلة، كما يوضّح، عن ثيمة «إزالة آثار العدوان» ذلك الشعار الذي امتطته السلطات المهزومة طويلاً «بالنسبة إليّ، فإن آثار العدوان تعني ترميم الروح الجريحة بالكتابة، واقتناص حيوات هامشية من الشوارع الخلفيّة، لم تكن يوماً في صفّ الأبطال التاريخيين». هذا ما يعدنا به في «حانوت قمر»، و«بانسيون مريم»، و«موت رحيم» في خماسية روائية، توثّق ذاكرة أجيال الهزيمة وانكسار الأحلام. يصرخ «سليمان» في رواية «آخر أيام الرقص»، وهو يتمدد فوق سرير «راما» السجينة السابقة «إننا بحاجة شهود على حياتنا كي نحياها». وسوف يستعيد «أدهم» في الرواية الثانية، وقائع ما يجري داخل أسوار السجن الصحراوي، فيما تضج الحياة خارجاً بأخبار حرب الخليج الأولى، ليغلق القوس عند عتبة الربيع العربي.
أرواح منسية
في الضفة الأخرى لانشغالاته، أنجز نبيل الملحم عملاً دراميّاً بعنوان «أرواح منسيّة» يجري تصويره هذه الأيام في القاهرة، بتوقيع المخرج السوري سمير حسين. العمل مكتوب باللهجة المصرية، وتدور أحداثه على خلفية الثورة المصرية، ورمزية بزوغ المشهد الأول في «ميدان التحرير»، في محاولة لتفسير معنى الثورة كمنظومة قيم، وعنف السلطة بوصفها مافيا لجباية الأموال في المقام الأول. وتشارك في بطولة المسلسل مجموعة من الممثلين المصريين والسوريين منهم صابرين، ومادلين طبر، وعزت العلايلي بدلاً من عبد الرحمن أبو زهرة، وميرنا المهندس، وأمل رزق، وعايدة رياض، وحسام فارس، ورامي غيط، ونور السباعي، وماهر عصام، ورندة الخطيب، وبيرتا أبي راشد، ومروة أحمد، وسامي الشيخ.
7 تعليق
التعليقات
-
دعوة للتعرف على القاتلفي سرير بقلاوة لحزين نتعرف على قاتلنا.. هو الامر كذلك.. في يوم من الايام قرأت رواية القوقعة وتوقفت طويلا أمام وثائقيتها وهي رواية كتبها سجين سياسي.. في رواية سرير بقلاوة قرأت شيئا آخر.. قرأت كيف يتسلل القتيل الى روح القاتل.. كيف يحاكم القتيل القاتل.. كيف يكون العنف مرضا والدم كترثة على من يعلق الدم على أصابعه.. قرأت رواية تحمل لغة مستحيلة .. لغ خليط من سرد روائي على رؤى فلسفية يقدمها كاتب مسكون بالرؤى.. ليست تلك المتعالية بل تلك التي تتسلل الينا ببطئ لنقول مابعد القراءة : ماالذي بين أيدينا ما يدفعنا لاعادة قراءة ماقرأنا .. انه الرواية الاجمل والاقسى في تاريخ الرواية العربية التي تنااولت السجون.. القتل والحب كذلك
-
أدب محيرقرأت سرير بقلاوة الحزين.. لم أعرف اذا ماكانت هذه الرواية رومانسية أم ان كانت رواية فجيعة انسانية.. ماهو أكيد أن كاتبها نبيل الملحم حزين ومتسائل.. وماانا متأكدة منه أن هذه الرواية علمتني كيف يكون الحب مختلطا مع القتل.. اكتب يانبيل .. اكتب .. دعنا نرحل معك الى عوالم نراها امامنا ولا نتنبه اليها
-
دائما يصعد وحدهفي ظرف سوري يهددنا بحياتنا قرأت نبيل الملحم .. قرأت سرير بقلاوة ومن ثم آخر ايام الرقص.. في روايته الاولى كان يأخذني الى ضفاف الفجيعة ثم يعيدني الى عمق الكوميديا.. لم اقرأخليطا مابين الكوميديا والتراجيديا كما قرأت عن هذا الرجل .. في آخر أيام الرقص قرأن روحا رومانسية شفافة محاطة بحزن هادئ كان عليك أن تلتقطه بذكاء لايملكه سوى قارئ يريد أن يقرأ كما لو كان مكان الكاتب .. في الروايتين ذهلت .. وفي اعادة قراءة سرير بقلاوة اكتشفت الحكمة ,, وبعدها قالوا لي ان بوسعي العثور على كاتبي في مقهى الروضة وحين عثرت عليه فعلا كنت أسمعه يقول لزميل له:" والله العظيم سأسبقكم الى الموت.. سأترككم تدورون فوق هذه الكرة ارضية الملعونة وكان يكركر من الضحك" عندها عرفت لماذا يكتب هكذا .. يكتب نفسه .. لا مسافة بين مايكتب وبينه .. نبيل الملحم أنا آنا الدخيل .. سأتعرف عليك في المرة القادمة وأقول لك مرحبا .. ستكون بطلي حين سأكتب روايتي .. احرص ان تفي بوعدك وترحل قبل أن اكتبك
-
أيها المهووس حبا ايها المجبولأيها المهووس حبا ايها المجبول بريح التمرد وحمى الشغب أعرف أن براكينك لم تهدا بعد ,ان قلقك مازال يمور اركن للرواية واروي لنا سيرة حياة صاخبة وثورات مغدورة ولازلت تناكفني كل مرة من خشيتيك أن يكون ما نلحظه وهما سنحاول ألا يكون الربيع وهما وسنحاول أن نجعل خريفك الذي امتد طويلا ربيعا نسائيا دائما مع تحيات العنتيبو
-
بل أكثروأخيرا قرر أن يروي، هذا الضاحك دائما، أهلا باستسلامك الجميل للرواية، نبيل، آن للشغب أن ينتهي، أن للشفهي أن يصمت، آنت أوقات جرد الحساب .. بانتظار المزيد (لم يعودوا ممكنا لمّهم في شاحنة واحدة، لكن لم تعد الطرقات أيضا في أماكنها)
-
بالتداعي تذكرت سعد الله ونوسبداية الف الحمد لله على السلامةللسيد نبيل الملحم.ما اظنه ان النبيل ملحم بدأ عهده مع الشباب بالترحال والتشرد في اوربة وأظن ايضا انه مع بلوغه عام النبوة "الاربعين" وعى شيء في ذاته بشكل ما فالتجأ الى الكتابة ليفيض منه ما اختزن من تجربة فيما سبق من طريقة حياةمصبوغة بالامل والبحث عن الجمال وأظن ايضا انه في خريف العمر وصل الى حقيقة ما وصل اليه كونفوشيوس حين قال بعد رحلة تشرد دامت ثلاثة عشر عاما"من مساوئ الطبيعة أن الفضيلة والجمال لا تجتمعان".على كل حال فان التداعي بالافكار يقودونا الى الكبير سعد الله ونوس الذي كان احلى انتاجه والاعلى فنيا والاكثر عمقا هو ما كتبه في حالة المرض وعلى الرغم من انني وبكل أسف غير مطلع على شيء من انتاج النبيل ملحم لكنني على القياس في مثل هذه المنمنمات اتوقع ان يكون الافضل والاعمق من انتاج السيد ملحم هو القادم وليس الذي مضى.للنبيل ملحم كل العافية انشاء الله.